د. عمر آدم قبله يكتب : شجون حديث.. لمن يهمه الأمر

13 ابريل  2022م

“هجرة الطيور 2”. …

 

أشرت في المؤانسة السابقة إلى أن بعض مناطق شمال دارفور كانت تستقبل أنواعاً وفصائل مختلفة من الطيور في مواسم الخريف. كان اختلاف تلك الطيور في أحجامها وألوانها وبناء أعشاشها وطرق الحصول على غذائها يمنح البيئة المحلية قَدرَاً من ثراء التنوُّع الحيوي والجمالي، حيث تتناغم مكونات النظام البيئي بسلاسة ووئام. ولنا أن نتساءل هل كانت حالة التعايش القبلي والسلم الاجتماعي الذي اتّسمت به مكونات شمال دارفور في ذلك الوقت مستمداً بصورة ما من هذا التناغم الحيوي والتنوع البيئي المتسامح. وبمعنى أدق ترى هل لثراء البيئة الطبيعية وتكامل مفرداتها تأثير إيجابي على المزاج البشري بحيث يؤدي لإضفاء نوع من الإلفة وروح المودّة والتوافق والتواصل الاجتماعي البناء؟.

ومن الظواهر المُلفتة في بعض تلك الطيور حياة طيور (العك) التي تبني اعشاشاً جماعية على الأشجار الكبيرة العالية لتضع عدداً من الأمهات التي قد يتجاوز عددها العشر بيضها في عش واحد. ولا يعلم أحدٌ كيف تميز تلك الأمهات بين فراخها فيما بعد. وتشتهر تلك الطيور عند المساء والصباح بإصدار ضوضاء وجَلبَة وأصوات عالية تشبه أصوات الشارع. وربما كان سبب ذلك مُحاولة التمييز بين صغارها أو بحث الصغار عن أمهاتها لحظة الإطعام. ولا أدري إن كان استخدام السودانيين لمفردة (العك) عند وصف حالات الجَلبَة والضجيج والمغالطات فيقولون (عكو كده) وتفرقوا دون الوصول الى حل، مأخوذة من أصوات هذا الطائر. ودائماً ما تكون أعشاش العك كبيرة ومليئة بالفراخ التي تجرب الطيران على رؤوس الأشجار القريبة ليومين او تلاثة، ثم ترحل الى أوطانها البعيدة. ويوجد طائرٌ آخر لا تخلو طريقة حياته من غرابة. ذلك الطائر المُميّز بلونه الأخضر وذيله الطويل المعروف بـ(اطأم شارقلو). هذا الطائر يضع بيضه تحت الارض، حيث يقوم بحفر جحر بين الحشائش أشبه بجحور الفئران ويضع بيضه بداخله، ويرعى بيضه وفراخه هناك لتخرج وهي قادرة على الطيران. وطائر آخر مُلوّنٌ له ذيلٌ طويلٌ من الريش الأسود يسمى (أبو موسى) وهو يتغذّى على الثمار البرية التي تنتجها بعض الأشجار والنباتات المتسلقة في فصل الخريف مثل (الحنبق) و(التوتو مغد). ويوجد أيضاً طائر صغير يطير على ارتفاع منخفض ويعيش وسط اشجار (السعات) بصورة رئيسية ويصدر صوتاً مميزاً يشبه إيقاع النقارة، لذلك يسمونه (أبو نقيقيرة). وهناك عددٌ من العصافير الصغيرة ذات الألوان الزاهية التي غالباً ما تكون خضراء أو حمراء أو صفراء وتعرف مجتمعة (بطيور الجنة) وهي أشبه بطيور الزينة ذات المناقير الملونة التي تربى في الاقفاص اليوم. ومن الطيور الصغيرة البارعة طائر (أم دودلي) والذي ربما أخذ هذا الاسم من طريقة بناء أعشاشه. حيث يبني عشاً كروي الشكل تقريباً، له مدخل صغير ويعلق على الأغصان الصغيرة اللدنة التي تتمدّد على أطراف الأشجار خَاصّةً أشجار الكتر. وتشاهد الأعشاش وهي تتأرجح على أطراف الأشجار مثل التمائم ولا أتذكر الآن ما هي طبيعة الخيط الذي يعلق به العش على الغصن. ويشبه أم دودلي في طريقة بناء عشه طائرا آخر يعرف (أمّا قطينة) أو (أم قطينة) وهو أيضاً يُعلِّق عشه على الأغصان الصغيرة الطرفية، ولكن الاختلاف أن العش هنا منسوجٌ من مادة قطنية تماماً ومتماسكة بقوة حتى إن بعض من ينتزعون هذا العش يستخدمونه كمحفظة نقود. ومن الطيور التي تأتي شبه عابرة وتتحرّك في أسراب صغيرة وتحلق عدة مرات حول المكان في تشكيلات رائعة، فهي تتّجه غرباً ثم تعود وتتّجه ناحية الشرق وتعود مرة ثالثة متّجهة نحو الجنوب أو الشمال، ذلك النوع المعروف بـ(قرين حشاش)، حيث يشبه شكل الطائر الواحد في الفضاء شكل “الجراية”، ويتفاءل به المزارعون كإشارة لهطول الأمطار أو مقدمة للعينه. ومن الطيور الكبيرة التي لم ترد في المقال السابق، ذلك الطائر الأسود المعروف بـ(أبو اندلك)، ويسمى عند البعض بـ(مالك الحزين)، ولا أذكر الآن كيف يتغذى ذلك الطائر. وهناك طائر (السقدة) ذو اللون البني المائل الى الأصفر، وهو ينام طوال النهار تحت الاشجار ذات الفروع الغزيرة المتدلية قريباً من الأرض. وهو غير الطائر المشهور بالسهر والمعروف محلياً بـ(أم كرَورَو) نتيجة للصوت الذي يحدثه أثناء الليل (كرَو، كرَو، كرَو). فأم كرَورَو طائرٌ صغيرٌ، حجمه أكبر من الحمام وله ساقان طويلان بصورة واضحة وسريع الحركة على الأرض وينام واقفاً بالنهار تحت بعض الأشجار، وله لون رمادي من أعلى مع بياض على البطن والأجنحة من الداخل وطوق أو لبة سوداء على العنق أو الصدر. وربما يكون هذا هو الطائر الذي تصفه الأمثال المتوارثة بعدم الهجوع ليلاً على قرار (فلولا المزعجات من الليالي ….لما ترك القطا طيب المنام). ولا أدري لماذا الحق الشاعر السهر بالقطا، فالقطا في بيئتنا المحلية نوع آخر من الطيور التي تأتي موسمياً وتطير و(ترك) على الارض بحثاً عن طعامها بين الأعشاب خاصة قرب مصادر المياه التي يوفرها هطول الأمطار. ويتحرك القطا وسط الحشائش بتأنٍ، وربما كان ذلك ما جعل شاعر الرباعية الشهيرة يقول:

“يتقسم مقاطع في المشي ويتحرن…. زي فرخ القطا الأماتو ركن وفرن”.

ويشبه القطا في الحجم تلك الطيور التي تتحرك منفردة وتعرف (بالفره)، وهذا النوع يتخفى وسط الحشائش ويطير فجأةً مُحدثاً صوتاً قوياً يشبه الدوي أو الفرقعة. وغالباً ما تسبب الفره خلعة للدواب مثل الجمال والحمير والتي غالباً ما يؤدي فزعها المفاجيء الى قفزها بقوة قد ينتج عنها سقوط ما على ظهرها من متاع أو إنسان. وإذا كان الوقت ليلاً قد تصيب الخلعة الإنسان ذاته. وهناك رواية لأحدهم وقد أخذ على حين غرة فوصف الطائر بقوله (هيء… فره فرار سلال قلوب رجال). وفي الادب الشعبي (شوف عيني الصقر بجناحو كفت الفره). والصقور كما هو معلوم تعكر صفو كثير من الطيور في البيئة الطبيعية. ومن الطيور التي توجد بأعداد كبيرة طائر (الحلف) أو (الحلفة) وهو أيضاً من الطيور التي تجيد التخفي وسط الحشائش والأعشاب، وحجمه أصغر من الدجاجة البلدية قليلاً، ولونه أيضاً بني يميل الى الأصفر الذهبي. وهو يكاد يطابق بدرجة كبيرة الطيور التي بدأت تربيتها حديثاً في السودان ضمن أصناف الدواجن التي تربى لتوفير اللحوم والتي تُعرف بطيور السمان ويقوم بتربيتها عدد من المنتجين والهواة. وتطول القائمة فهناك الهدهد الذي يُعرف محلياً بـ(فكي وتد) أو ابو نجار. ومن الصقور (أبيض لبن) و(صقير بوش) والحدية وصقر العقاب، ويستمر التنوع وتطول القائمة حتى تصل الى (أم قيردون) تلك التي يتغنى لها الصبية ليقودوها الى الشَّرك (أم قيردون الحاجة الكل نهارك داجة …الخ).

رمضان كريم ودمتم في حفظ الله ورعايته،،

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى