(الصيحة).. تتجول وسط (مناجم  الموت ) في اقصى جنوب دارفور وتنقل صور مأساوية للمعدنين

 

* مناجم التعدين الأهلي بجنوب دارفور.. الموت البطيء

* استخدام الزئبق وماء الحل وغياب السلامة المهنية

*عمالة الأطفال بمنجم أغبش.. مَن المسؤول؟

منجم أغبش: حسن حامد   14مارس2022م 

 

آلاف المعدنين توافدوا من كل حدب وصوب حتى من دول الجوار إلى مناجم التعدين الأهلي بمحلية الردوم بولاية جنوب دارفور. جاءوا إلى هنا من جنسيات وثقافات مختلفة شقوا من خلالها الفيافي وصعوبة الوصول إلى تلك المناطق بحثاً عن معدن الذهب فى باطن الأرض والإصرار على الحصول عليه ولو على حساب صحتهم وهم لا يدرون بذلك ولا يعرفون شيئاً عن السلامة المهنية في ظل وجود الشركة السودانية للموارد المعدنية التي لم تطبق حتى الآن أدنى مقومات السلامة لهؤلاء، بجانب انعدام الخدمات الصحية مقابل أموال طائلة يرفد بها هؤلاء الغلابة خزانة وزارة المعادن.

أمراض جديدة

أمراض بدأت تظهر في السطح وسط المعدنين بمناجم محلية الردوم الحدودية مع أفريقيا الوسطى وجنوب السودان وصلت مرحلة السرطانات ولا يدري الأهالي بمسبباتها هل هي ناتجة عن المواد المستخدمة في استخلاص الذهب ومنها الزئبق وماء الحل لهذا المعدن النفيس أم لا؟ تبقى المساحة واسعة لدراسة المسببات. فمحلية الردوم تحتضن العديد من المناجم منها ثريا، أغبش، جمبانا، ضرابة، كفية قنجى وغيرها من الخطوط كالبقرة والدعم السريع وود نيالا وود الفاشر والشرقي وخط العمد والثعيلب وقبر داؤود وكسرة وحفرة النحاس وغيرها من المواقع. فالذهب موجودٌ وبكميات كبيرة ولكن التنقيب الأهلي للوصول إليه إما تبر أو تراب، فكم من مُعدِّن انهارت عليهم آبار ولقي حتفه وكم من مُعدِّن أُصيب بإعياء ونُقل إلى نيالا ومنها إلى الخرطوم وأصيب بالسرطان أو الفشل الكلوي نتيجة لعدم صلاحية مياه الشرب هنا وتأثّر المصادر بالزئبق بعد أن تجرف مياه الخريف مادة الكرتة نحو ما جرى المياه.

الطريق إلى أغبش

رحلة طويلة وشاقة واجهت الصحيفة من نقطة التحرك من نيالا إلى برام ومنها إلى سنقو وصولاً إلى أغبش من حيث وعورة الطرق وتعقيداتها الأمنية بوجود عصابات النهب المسلح في بعض المواقع والتي تظهر من وقت لآخر لاصطياد المارة والاستيلاء على ما يملكون من أموال، ففي كل منطقة نصل إليها يرشدنا الناس بأن نأخذ حراسات لسلامتنا، ولكن الله تعالى وفقنا من الوصول إلى منطقة أغبش ومنها إلى العديد من المناجم وصولاً إلى كفية قنجى الحدودية مع دولة جنوب السودان والتي سنفرد لها مساحة خاصة لنعكس واقع الحال فيها علنا نُوصِّل رسالة هؤلاء للسلطات المسؤولة بأن هناك مواطنين في أقاصي بلادي حالتهم مأساوية لأن مهنة الصحافة البحث عن الحقيقة وتوصيلها ولو كانت مُرّة. فالأهالي الذين تجمعوا هنا يشكون مُرّ الشكوى مع حوادث النهب بالطرق المؤدية إلى المناجم.

 

واقع مأساوي

في منجم أغبش الذي يحتوي على عدد من الخطوط، يوجد آلاف المعدنين، ولكنهم يفتقدون لأدنى مقومات السلامة المهنية ويخوضون الآبار العميقة دون كمامات مع تناول مياه شرب يقولون إنها مالحة، بجانب وجود عدد كبير من الشباب في أحواض غسيل المعدن بالزئبق بأياديهم دون لبس أي جونتيات أو حتى كمامات أو أبوات واقية لأرجلهم. وفي الجانب الآخر توجد طواحين الهواء التي تحجب الرؤية عند تشغيلها لطحن الحجارة المستخرجة من الآبار وهؤلاء أيضاً لا يستخدمون أي نوع من وسائل الحماية لأنفسهم من تلك الأتربة والغبار، الأمر الذي انعكس سلباً على صحة عدد منهم، أضف إلى ذلك العاملين في درداق طحن الحجر المسحون بواسطة محلول الزئبق بدون أي وسائل للسلامة.

عمالة الأطفال

اللافت للنظر وجود عدد كبير من الأطفال بمنجم أغبش يعملون في ظروف معقدة، مع العلم أن القانون يمنع عمالة الأطفال، فمنهم من يخوض حفرا عميقة لإخراج محلول مياه (الروض) المستخلصة من الكرتة التي أضيف لها من قبل مادة الزئبق، علاوةً على عمل بعض الأطفال في الدرداقات التي ينقلون من خلالها الكرتة وأعمالا أخرى شاقة. وقد شكت الإدارة الأهلية لمنجم أغبش من تواجد هؤلاء الأطفال بالمناجم وتخوفها على صحتهم، وأشارت إلى أن هنالك قرارا سابقا صدر بمنع حضور النساء والأطفال الى المناجم، ولكن الآن حضر الأطفال بصورة كبيرة، داعيةً السلطات المختصة إلى النظر في هذا الجانب.

وفي استطلاع وسط عدد من الأطفال، أشاروا إلى أنهم تركوا الدراسة في مناطقهم وجاءوا للعمل في المناجم لتحسين ظروف أسرهم رغم مخاطر تواجدهم بمناجم التعدين الأهلي.

واقع الحال

ويقول المعدنون، إنهم منذ العام ٢٠١٦م يعملون بهذه المناجم ويُواجهون ظروفاً بالغة التعقيد بغياب الخدمات الصحية ومُعاناة بعضهم من الكحة وآلام الصدر لعدم صلاحية مياه الشرب والغبار في الآبار والطواحين مقابل الغلاء للمياه الصافية التي يبلغ سعر القارورة الصغيرة منها (٢٠٠) جنيه ولا يستطيعون مواصلة استخدامها طول الوقت.

سوء تخطيط

أكثر من سبع سنوات من تأسيس منجم أغبش تمضي وسُوء تخطيط سوق أغبش لم يُعالج أمره بعد فتجد مطعم وجوار موقع لحرق الذهب وتتطاير أدخنة الحرق بواسطة ماء الحل، وآخر وبجواره حلاق وكافتيريا وليس ببعيد عن تلك الأمكنة تجد درداقة الهواء التي تثير الغبار إلى داخل السوق، كل ذلك تسبب في ظهور كحة وآلام للصدر لعدد من المعدنين الذين تحدثوا للصحيفة وشكوا من انعدام الخدمات الصحية وعدم وجود طبيب واحد في منجم يضم أكثر من (٣٠) الف معدن ومستثمر في منجم أغبش.

وقال الحاج موسى آدم، إن كثيراً من الجهات وصلتهم بالمنجم ووعدتهم بتوفير الخدمات لكنها تظل في خانة الوعود ولا يوجد أي موقع لعلاج المعدنين والكل يجتهد للحصول على الذهب دون أن يعرف مخاطره على صحته، حسب تعبيره.

حضور الرؤية

في ظل غياب التوعية الصحية للمعدنين وتفاقم أوضاعهم، جاءت المبادرة من منظمة الرؤية الوطنية للتنمية المستدامة الوليدة التي تأسست في العام ٢٠٢١م بقيادة عماد عيسى والتي أطلقت مشروعا لتوعية المعدنين بمخاطر التعدين الأهلي تحت شعار (صحتك أغلى من الذهب)، فجابت عددا من المناجم في مناطق نائية صعبة الوصول إليها لوعورة الطرق. فقدمت المنظمة محاضرات توعوية للمعدنين في مواقع عملهم بالآبار والطواحين ومواقع الغسل وحرق الذهب، بجانب المساجد والتجمُّعات بالأسواق حول كيفية اتخاذ السلامة المهنية عند ممارسة عملية التعدين من ضرورة لبس الكمامة والجونتيات والأحذية البلاستيكية لمن يعملون في الغسل باستخدام مادة الزئبق في أحواض الغسيل ودرداق الطحن، بجانب حرق المعدن.

توعية وإرشاد

وجدت الحملة التوعية والإرشادات التي قدمها الإذاعي المختص في التنمية البشرية د. الحافظ عبدالنور، صدىً طيباً وسط المعدنين الذين استجابوا، وأكدوا تطبيق تلك الإرشادات حفاظاً على سلامتهم وتطبيق مقولة (درهم وقاية خير من قنطار علاج). ووصف نائب رئيس منجم أغبش جابر مبادرة المنظمة بالأولى من نوعها منذ تأسيس المنجم، مقراً بوجود العديد من المخاطر.

 

وقال إنهم كإدارة أهلية للمنجم سيبذلون ما في وسعهم والتعاون مع الأجهزة الأمنية والسلطات الحكومية والشركات لتوفير الحماية الأمنية والصحية للمعدنين.

تجارب وقائية

من جانبه، قال المستثمر أحمد الطيب ابراهيم، إن التعدين بتلك المناطق بدأ قبل سبع سنوات، لكن حتى الآن تجارب الوقاية الصحية والتعامل مع المواد المستخدمة ضعيفة، مشيداً بما قامت به المنظمة في توعية المعدنين، وتابع (المعدنون جاءوا من مناطق مختلفة وثقافات متعددة وبالتالي يصعب التعامل معهم في ظل انعدام الخدمات الصحية وغياب برامج التوعية والإرشاد المتواصل ضماناً لسلامتهم).

فيما قال المعدن مأمون محمد موسى، إن هنالك مشكلات صحية وبيئة متردية بمنجم أغبش لكنه رغم ذلك ربما أفضل من بقية المناجم المنتشرة بمحلية الردوم، مشيراً إلى أن عدم الإلمام بالثقافة الصحية وإجراءات السلامة في الاستخدام الأمثل للمواد جعل هناك مخلفات أضرت بصحة المعدنين وظهور كحة متواصلة وبعضهم يشكو من آلام وأوجاع بالصدر وغياب تام للأجهزة المنوط بها توفير السلامة للمعدن التقليدى. واختتم مأمون حديثه بسؤال حائر حول هل وجود مصنع الشركة التي تعمل في مخلفات الكرتة بالقرب من السوق له علاقة بالكحة أم لا؟. بينما شكا عبد الرحيم آدم من وجود مصادر المياه من الناحية الجنوبية للمنجم لما لها من أضرار في تلوث المياه، مطالباً الجهات المختصة وإدارة المنجم بأهمية إنشاء مصادر للمياه في الاتجاه الشمالي للمنجم حتى لا تتأثر بالتلوث.

من المحرر

الواقع الراهن يستدعي التدخل العاجل من الشركة السودانية للموارد المعدنية وشركة الجنيد التي تعمل في مخلفات الكرتة بأن تكون المسؤولية الاجتماعية تجاه هؤلاء الغلابة تمشي بينهم واقعا على الأرض وليست وعودا، فنأمل أن نرى مركزا صحيا تتكامل فيه الخدمة العلاجية لهؤلاء الذين يرفدونكم بهذا المعدن الأصيل مقابل التضحية بصحتهم وفقدان بعضهم لأرواحهم، فما جدوى توفير الشركة السودانية للموارد المعدنية عربة إسعاف دون كادر طبي مقدمة الخدمة لهؤلاء.

انهيار آبار

فكثيرا ما سمعنا عن انهيار آبار على معدنين لحقوا حتفهم داخل هذه الآبار العميقة، كذلك مطلوب توفير أدوات السلامة من كمامات وجونتيات وأحذية بلاستيكية ولو بالمقابل لأن هؤلاء يفتقدون تواجدها بالمنجم خاصة بعد التوعية الصحية التي قدمتها منظمة الرؤية الوطنية للتنمية المستدامة للمعدنين في مواقعهم حول مخاطر وأضرار التعدين الأهلي تحت شعار (صحتك أغلى من الذهب). كذلك على السلطات المختصة بمحلية الردوم التي يقع المنجم في دائرة اختصاصها اتخاذ إجراءات عاجلة في إعادة تنظيم السوق وإخراج أماكن حرق المعدن ومواقع الغسيل والطواحين إلى مواقع بعيدة من السوق حتى لا يكون لها تأثير على صحة هذا الإنسان الذي جاء هنا من أجل البحث عن الذهب ومصيره يا إما تبر أو تراب، نسأل الله السلامة والعافية لكل من يغوص أعماق الآبار بحثا عن الذهب الذي أطلق الكومجية على دوام التواجد داخل البئر للحفر بـ(الدوام لله) أي يدخل للبئر ولا يدري هل سيخرج بعض الانتهاء من الساعات المحددة له أم ستنهار عليه كما حدث لعدد من المعدنين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى