د. عمر آدم قبلة يكتب : أفئدة الحروف…

14يناير2022م 

قلت في تدوينة سابقة، إنّ الأستاذ محمد سعد دياب يُعد في تقديري من شعراء السودان المجيدين الذين يستحق إنتاجهم المزيد من التأمل والمدارسة. فالرجل صاحب مفردات عذبة ورصينة. فعند مطالعة ديوانه لأول مرة قد تستوقفك عبارات وربما مفاهيم غير مطروقة من قبل، مثل (عطر الهنيهة) و(هينمة الوتر). وروعة الإبداع كما قلت يُمكن أن تكون دلالة مفردة أو جملة أو بيت شعر واحد، مثل ثنائية الشقلاب.

“العرب شكشاك ندي * ونحن البرزِم من عِشي”

فرفاهية النص الإبداعي هي الانتقال بالمُتلقي بسلاسة ورفق من حالة وعيه بالبديهيات إلى حيِّز اللا مألوف وترف إطلالة المعاني الغائبة.

فعلى كثرة ما كُتب عن السودان كوطن وإنسان وموارد وجُغرافيا، يقدم الراحل مبارك المغربي لوحة غير مسبوقة وذات إيقاع أنيق في قصيدته المغناة.

(من رهيد البردي لمحة) و(من نخيل الباوقة طرحة) و(من مريدي السمحة نفحة) إلى أن يقول:

(الطبيعة حنت عليك وجسدت بصماتها فيك)

وقد جادت علي نادرات السوانح برؤية حاضرة قلب الاستوائية “مريدي” المُوشحة بالخُضرة والغيوم والرذاذ، فهي تستحق ما قيل فيها وأكثر.

ومن أبيات مبارك المغربي التي ترتقي لمقام الحكمة والمثل قوله:

ما غربة القلب أرضٌ غير موطنه

بل غربة القلب ناسٌ لا تواسيه

ومن افتتاحيات القصائد التي تعطيك انطباعاً أولياً يغنيك عما يليه قول محمد سعيد العباسي:

حياك مليط صوب العارض الغادي

وجاد واديك ذا الجنات من وادٍ

فكم جلوت لنا من منظرٍ عجبٍ

يشجي الخلي ويروي غلة الصادي

وكذلك قدم المحجوب، مختصراً جامعاً في البيت الأول من قصيدته التي افتقد فيها السيد عبد الرحمن المهدي بقوله:

العيد أقبل أين البِشر والطربُ * والناس تسأل أين الصارم الذربُ

ومن روائع “الشوقيات” التي يمثل فيها بيت الشعر الواحد معنىً فسيحاً وممتدًا، قول شوقي مخاطباً مدينة دمشق إثر واحدة من محنها التاريخية

ســلامٌ مــن صـبـا بـردى أرقُّ

ودمــعٌ لا يـكـفكف يــا دمـشقُ

ولو اكتفى الرجل بذلك في تضامنه مع عاصمة الهلال الخصيب لكفاه. ولكنه يسترسل ليقدم صوراً إضافية في البلاغة وعُمق الدلالات كقوله:

وللأوطان في دمِ كل حرٍ

يدٌ سلفت ودَيْنٌ مُستحقٌ

ومن التشبيهات الجميلة لشوقي وصفه للبطل الليبي عمر المختار وقد أثقلت خطو أقدامه قيود المستعمر

“أسدٌ يجرجرُ حية رقطاء”

وعلى كثرة من كتب في وصف المقل وسحرها يأتي وصف السياب بصورة بالغة التميُّز وبعيدة كلياً عما هو مألوف بقوله:

“عيناك أم غابٌ ينام على وسائد من ظلال”

وعلّ بعض الذين عاشوا بواكير حياتهم في كنف الطبيعة البكر بأرياف السودان وبواديه يوم أن كان للسودان أريافٌ وبوادٍ يدركون كيف ينام الغاب على وسائد الظلال.

ولشعراء الأغنية السودانية لمساتٌ في الوصف بالغة الأناقة والترف تستعصي على الإحصاء والعد. وأذكر أننا في أيام المرحلة المتوسطة كنا نعبر بنادي الفاشر الثقافي ونحن نتحرّك بين المدرسة وقلب المدينة، وكان النادي ذات مرة يستضيف معرضاً تشكيلياً للفنان “ديدان”، وأعتقد أنه أحد معلمي الفنون الجميلة والتطبيقية بالمدارس الثانوية. وعند مُرورنا كانت مكبرات الصوت تبث تسجيلاً غنائياً للفنان حمد الريح، وأذكر أن أكثر لوحة تصويرية استوقفتنا في غناء الرجل قوله:

بيضُ الوجوه كأنهم رضعوا على صدر القمر.

وفي تراثنا الشعبي الكثير من الصور الفنية الممزوجة بجمالية البيئة وسِحر المكان، مثل قول أحدهم:

الرهد البقوقي دباسو * ردتو جميعو قمريهو وبلومو وناسو

ومن نوادر جراري الشبيليات في المعابثة والشلاقة قول إحداهن:

السوار أبو ليّه السبب الدّيَّة

نقعد بذار كيّه لا وليد ولا بنيّه

ومن طرائف الجراري التي ينسبها صديقنا الإداري الفذ الفاتح عبد العزيز للزياديات ويستدل بها على خُصوبة الخيال في مدارسات التراث

شوفك ليّ محدّد * وخبرك لي ما تجدّد

جرحك دامو تشدّد * شال “بقاق” واتقدّد

ومن الرباعيات التي تُصوِّر مواقف الشهامة وتفريج الكرب عن الأصدقاء قول أحدهم:

أخو أم ساقا متبر ونيل مزرقن فاها

ريح عيني من سهرا قبيل والاها

ربيطةً عاسه ضهري تملكا وقلاها

أحمد شالها مني ودردقا ودلاها

وهي بمثابة ملخص لقصةٍ يُمكن أن تكون رواية بحجم كتاب.

ومن مجادعات عبد الله ود إدريس في التململ والمُعاناة والضيق بحياة الغربة:

كدر الغربة يا أب ريش والليالي الغابرة

خلالنا اليقين أصفار وشبر الجابرة

البلد الـ”فيه” نتوصف شيوخ وأكابره

بينا وبينو بلاع البوارج العابرة.

* وقد ذكرت في أكثر من مقام سابق عصاة التوية التي يُردِّدها علي ود عيسى كملخص مُختصر في مجال المفاخرة والاعتداد بالنفس:

أنا الصقر البفر جنحيه * خطف كافر الدبيب طار بيه

ومن التشبيهات النادرة في بيئتنا المحلية رباعيات شاعرة النقارة (فايقة) وأقول أغاني النقارة وليس الدلوكة. وهي تصف أحد فرسانها مرةً بأنه “الكلو الما بنطلع” ومرة “الكلو الما بنحني”.

* والكلو اسم لجبلين شاهقين على طريق مليط – الفاشر وربما يستطيع الذين شاهدوا الكلو عن قرب أن يشرحوا لنا سر التشبيه.

ودُمتم في حفظ الله ورعايته..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى