آمال عباس تكتب.. وأشـاع النور في سـود الليـــالي

هناك أشياء في الحياة تشكل اتكاءة .. لأخذ شئ من الراحة أو التزود.. لمشاوير المرء العامة أو الخاصة.. وهذه الاتكاءة قد تأتي من مثل يضرب هنا أو هناك.. أو من قصة تُروى على لسان شيخ أو حبوبة.. أو من أسطورة تتناقلها الألسن وربما لا ندرك حجم العظمة والدلالة المحيط بها.. قبل أسابيع وفي صحيفة «الانتباهة» قرأت للزميل الصادق الرزيقي مقالاً يدخل في قائمة الحكايات ذات الدلالات الكبيرة والإشارات الواضحة، المقال بعنوان وأشاع النور في سود الليالي.. طربت أيّما طرب لما جاء في الحكاية، وكعادتي قصصت المقال واحتفظت به، ولكني قررت أن أطرد أنانيتي وأشرك معي قراء «من العمق العاشر» في إحساسي ذاك الطروب من عظمة قائد ووفاء قاض ونجابة حفيد.. الرزيقي كتب:

(أ)

من مرويات عبد الله زكريا إدريس.. أحد عصافير النار في السياسة السودانية الذي أثقلته أفكاره ومعتقداته وقلبته على جمر التنظيمات والعواصم والأرصفة والأحزان الكبار.. قصة كنوز السلطان علي دينار وثروات سلطنة الفور في دارفور قبل سقوطها عام 1916م.

على شرق فندق مغمور بالعاصمة الليبية طرابلس, هواء مشبع برطوبة يجتاح المكان ولون البحر بزرقته يملأ الأفق أمامنا كوجه متجمد في الفراغ, ونوارس الظهيرة تلامس وجه الماء ثم ترفرف وتعلو كأنها بندول لا يمل لساعة خرافية لعالم من أساطير.

مد الرجل بصره نحو البحر ورنا بعينيه المتعبتين للأفق البعيد، وقال بصوت خافض أشبه بالضجيج «ثمة ركام غطى على حقائق التاريخ.. وهذا البحر الذي مخرت عبابه سفن المستعمرين لم يحمل إلينا إلا الرزايا ولم يحمل إليهم إلا العطايا والكنوز»، وكأنه كان يسترجع صوراً قديمة متجمدة في الزمن بدأت تتداعى أمامه كينبوع نور أو تواشيح عذاب ثم رنا في استغراق صوفي مجيد وتنهد مرددًا في أعماقه اللولبية صدى كلمات مرتعشات الجنان لمحمد الفيتوري:

يا أيها المصلوب فوق مشانق المحتل

هل مازلت ترقص في الحبال

وهل الظلال على امتدادات الطريق

هي الظلال..

وهل الخيال الأصفر الشفقي

خاتمة الخيال

(ب)

بدأ الرجل بسرد القصة كأنه يحكي عن نفسه وعن محنته ومحنة جيله وحكايات تروى عنه وعن بلده وصوت فيروز يشدو حوله خذني.. خذني علي بلادي.

قال عبد الله زكريا:

قبل دخول الإنجليز مدينة الفاشر بأسبوع بقيادة كلي بيك وهدلستون في 22 ـ 32/6/6191م, جمع السلطان علي دينار اثنين من خاصته وكاتمي أسراره من كبار رجال سلطنة الفور الإسلامية، وتشاور معهما في أمر بالغ الدقة والأهمية بعد تيقنه أن جيش هدلستون سيدخل الفاشر لا محالة.

وتحرك في جوف الليل البهيم.. موكب طويلٌ صامتٌ.. عدد من البغال المثقلة بما تحمل وثلاثة أحصنة مطهمة تشق ظلام تلك الليلة البكماء.. لا صوت إلا صوت حوافر الخيل والبغال على الرمل حينا وصوتها على صخور الجبال.. عندما كان القمر يختنق في محاقه كتائهٍ وحيدٍ في بيادر السماء.

(ت)

ألفى السلطان علي دينار نفسه ورفيقاه قاضي إدريس جد عبد الله زكريا ووزير ماليته «جمر القايلة» وموكب البغال وحراس أشاوس، يصعدون الجبل الأشم حول الفاشر والريح الهوجاء المجنونة تعصف حولهم ورائحة الموت والهشيق تجوب المكان كجيفة تناثرت في الفضاء.. تجهم وجه السلطان وتشقق بالعرق.. ساعة بدأ حراسه ورجلان يحفرون عميقًا بين صخرتين فوق هضبة على رأس الجبل.. الليل يوغل في المسير والحفرة تزداد اتساعاً.. بعدها دفن السلطان ومرافقوه كل كنوز السلطنة وعملاتها الذهبية والمقتنيات الثمينة من الذهب والفضة والجواهر النادرة وهدايا الباب العالي في تركيا وكل ثمين وغال.

وكأنه دفن ميتاً عزيزاً عليه، وقف السلطان عقب ردم الحفرة الضخمة، وبعد أن سويت تماماً وطفرت من عينيه ومضة غريبة وقال زافر شاهقاً:

بعد هذا لن يجد النصارى الغلف هذا المال الحلال.

والتفت بوجهه المهيب لأحد كبار حراسه.. وغيب الظلام أو الموت الحراس والعمال والخدم، ولم يبق إلا السلطان وقاضي إدريس وجمر القايلة ورئيس الحراس الذي ابتلعه الليل أيضاً.

(ث)

ويمضي عبد الله زكريا يستدعي الزمن من فجواته ومخابئه السحيقة.. أخرج السلطان من جراب في حصانه مصحفاً عثمانياً ضخماً زخرف غلافه بماء الذهب ولمعت مع أعين الأنجم البعيدة زخرفات فضية عليه، ودعا رفيقه للقسم معه أن يكتما هذا السر للأبد، وأن يدفن معهم إن استشهدوا غداً في المعركة أو وافاهما الأجل في آجال أخرى قادمة.

وعادت الأحصنة الثلاثة وهامت البغال الستة عشر في الليل والبقاع والسهول الواسعة، ودخل الموكب الثلاثي الفاشر، ومع خيوط الفجر استيقظت المدينة ولا أحدٌ يعلم ما في بطن ليلتها تلك.. وبعد أسبوع كانت الفاشر تتحدث «ترك جودا في سيلي».

وكانت المعركة الطاحنة الفاصلة، واستشهد خلق كثير، وتراجع السلطان إلى جبل مرة ووادي صالح، ولاحقه الجيش الإنجليزي، واستشهد هناك ماهراً التراب ومعفرة بدمه الذكي ومتصاعداً بروحه لمدارج السموات العلى.

أما قاضي إدريس وجمر القايلة فقد كتبت لهما الحياة، حتى إن نساء الفاشر كن يغنين في حزن مقيم بأغنية ينفطر لها القلب

دنيا زايلة

شالا سلطان

وخلا جمر القالية

(ج)

ومضت السنوات, يقول عبد الله زكريا وجده إدريس يعمر.. كان الموت يهاب رجل القرآن وقاضي السلطنة الفقيه العابد العالم يزاوره حينًا ويغض الطرف عنه مثل مدخر لوعد غير مكذوب، وقاضي إدريس في خريف عمره الطويل صامت لا يكلم أحداً ولا يتكلم بالسر المدفون في قلبه المغروس في أعماقه.. لعهد قطعه للسلطان وقدم له مع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

ومع دخول عبد الله زكريا كلية الآداب جامعة الخرطوم في مطلع السنوات الخمسين 1952م وهو يدرس الجغرافيا، يستدعيه أستاذه البريطاني الجنسية في كلية الآداب ويطلب منه بحثاً عن تاريخ سلطنة الفور وأين ذهبت كنوزها.

والطالب الصغير يسافر للفاشر ليجمع المعلومات، ولا أحدٌ غير جده يعلم خفايا وأسرار وخبايا التاريخ القريب، لكن الجد الصامت الصامد الوفي لم ينطق بكلمة، حاول الحفيد مجرد معرفة ذرة من تلك المعلومة الباهتة، لكنه لم يظفر بإجابة واحدة ولا حتى الجهة التي يقع فيها الجبل.

(ح)

وكتب عبد الله زكريا بحثه التاريخي الجغرافي، لكن الأستاذ الإنجليزي زم شفتيه وعلت وجهه الخيبة لأن ما يريد لم يكن في البحث.

وقارن بينه وما كتبه أهم مرافقي الجيش الإنجليزي في حملة وغزو سلطنة الفور «ماك مايكل» الإداري الإنجليزي المشهور الذي كتب أهم التقارير وتاريخ السودان في العهد الإنجليزي، وحسن قنديل ممثل مصر في الحملة تلك، ومضت السنوات ولا أحدٌ يعلم حتى هذه اللحظة أين ذهبت كنوز السلطان علي دينار، وتتلاطم هذه الكنوز في فجاج المرويات والأساطير مع كنوز الملك سليمان في قصة «ألان كواريتر مين الشهيرة».

(خ)

ويقول عبد الله زكريا وهو يغرس بصره وهمسه في مياه البحر وأمواجه.. إن الإنجليز بحثوا في كل ذرة تراب وقلبوا كل حجر في وحول الفاشر بحثاً عن تلك الكنوز، وفي اعتقاده أنه قد يكون من الراجح أنهم وصلوا لها وحصلوا عليها.

تحول الصوت الى فحيح آخر

صوتي.. هذا صوت النار وأنين الحطب

صوت هذا

رنين الموت في موج الغضب

وصمت عبد الله زكريا مثل جدّه إدريس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى