علي مهدي يكتب : نحو رؤية وطنية لمكافحة والتصدي لخطاب الكراهية

 

الفنون الوطنية بتعدّد أشكالها إشارات لقبول الآخر وللتعايش السلمي

مكافحة الإرهاب والتصدّي لخطاب الكراهية واجبات اليوم قبل الغد

 

انشغلتُ يا سادتي أيامي الماضيات بالنظر بكثير من التقدير للمبادرات الخلّاقة لمناهضة العنف، كل أشكال العنف المفضي للفوضى، وقد كانت لي في ذلك مشاركات إقليمية ودولية كثيرة. وسعيتُ عبر فنون العرض للمشاركة الواسعة في مناشط نظّمتها الأمم المتحدة، ووكالاتها في بعض المناطق التي شهدت نزاعات مسلحة، سبقتها جهود وسعي إبداعي وسياسي ودبلوماسي لإيقافها بالقدر المستطاع. ولكن رغم النداء الأممي لمناهضة خطابات الكراهية، انتصرت الفكرة الشريرة، وغابت مدن وقرى محترقة أحيانًا بأهلها، وكنتُ بين ما تبقى منها، النظر عندي ضاع بين الخراب، ولم تتكرم المآقي بدمعة، تجمّدت الدهشة، وكأني ما كأني، ولا أنا هنا. وتلك حكاية أخرى.
ولقد كتبتُ في الدهاليز عنها، والنتائج التي حققتها، وكنت أستعد للعودة إلى المدن والقرى التي شهدت تجاربنا في استخدامات الفنون الأدائية في تعزيز السلام. ونظرتُ بكثير من التقدير للدعوة الكريمة من الهيئة الوطنية لمكافحة الإرهاب وهي تكمل شراكتها مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( UNDP) واحد من أهم وكالات الأمم المتحدة، التي ينبغي لنا جميعاً، في عوالمنا التي تمشي مع أحداث الإرهاب والفوضى، أن نعمل معها، ونبني الشراكات، نرتجي منها تبادل المعلومات، في فنون مناهضة ومحاربة خطاب الكراهية. فما أن نسعد بالأخبار المفرحات، بمشاركة مبدعين من بعض مناحيها أفريقيا في مشهد أممي للفنون، أو نجلس الى حكماء أفريقيا، يحكوا عن تواريخ التأسيس، وقدرة التقاليد في استنباط الحلول للمشكلات العصية، بتمازج بين التراث الشعبي، موسيقى وغناء وتشخيص وحكايات، إلا وتعيد وسائط الإعلام وبقوة، وكانها تستمتع بأنباء الانفجارات، انفجار عقب الثاني، والآخر في الانتظار، انفجارات وأحداث موت وخراب، لم تأت صدفة، سبقتها الأقوال. والافعال فيها من التصاوير ما لا يحتمل، أطفال بين الضحايا، ومعلومات عنهم تعاظم الأحساس لا بالحزن، ذاك أهون، ولكنه إدراك بأنها الدنيا، كل الدنيا لا معنى لها، ولا قيمة للحياة كانوا في طريقهم إلى المدرسة، أو عادوا لمقابلة الأهل بعد عطلة طالت في نظر الأمهات الملهوفة، انتظار وانتظار، يستبدل بانفجار مدوٍّ وما يبقي على شيء، ولا حتى الكراريس الملونة، وعلب الهندسة، لا برجل، أو مسطرة صغيرة، تخطط بيوت الأحلام والاستقرار، وتبني ولو في الخيال، بيوتاً كلها فرح وزغاريد. لحظة الانفجار تحيل كل حلم إلى نهايات، ما رصدوها ولو في الخيال. وتمتد نوافير الدماء والخراب والعنف، العنف بلا حدود. وما بعد ذلك تمتد حبال الانتقام، وتمشي خطوط الكراهية بين الناس، كل الناس، لكنها الكلمات والتصاوير هي التي تبني للكراهية جسوراً، تقوم بلا معنى وسط الناس، وإن اختلفوا، ففي التفاصيل لا في الكل، مع الكل، لا يسحب معه حق الحياة الكريمة والعيش الممكن رغم رهق الحياة. وتدور الكلمات المتوحشة في مناحيها الوسائط الممكنة والمتاحة، الآن تتعدد، وكلها قدرة على تفشي الخبر، وإن كان أصغر من الإشارة إليه. وإذا نظرت ثم نظرت لأصل الخبر المفضي لأسباب الاقتتال، تجده بلا معنى، ولا فيه بالضرورة أسباب تدفع لكل ذاك الاقتتال.
خبر يمكن أن يكون غير صائب وصور غير صادقة، تنتشر بسرعة في الوسائط، وهي كثيرة الآن، وبلا رقابة أخلاقية، وبلا حدود. كلمة تهدم نسيجاً اجتماعياً، سهر الآباء المؤسسون من أجل بناء اجتماعي متكامل، شكّل بعدها دولة، قامت على القبول بالآخر، وراهنت في البنيان على تعدد الثقافات، وفي الأهم على تنوع أشكال الفنون . وكان ودي أن تزدحم برامج الندوة التي عندي أنها جاءت في أفضل وأحسن أوقاتها، بذاك المعين الأهم
(الفنون الوطنية التقليدية بتعدّد أشكالها، إشارات لقبول التنوع والآخر، وهي المثال النموذج الأفضل)
كمدخل لها وللفكرة الصائبة فيها.
ويوم طالعت الدعوة المذكّرة فهمت، أن الهئية الوطنية لمكافحة الإرهاب، تقدم في تنظيم الورشة، لا خطابها المستقبلي، أو تكشف عن برامجها، وهي جزء من واحدة من أهم مؤسسات السيادة وأكثرها تأثيراً إيجابياً على مشهد الحياة السياسية.
لقد جاءت المبادرة بهذه المشاركة الوطنية أولاً، من حيث برنامج الافتتاح، بحشد رسمي يتيح للمشاركين أن يستمعوا مباشرة لخطاب الدولة في مستويات الحكم المتعددة، وفي جهدها الورشة للعون، عون الدولة على بناء شراكاتها المتجددة مع أهل الحكم، بعيداً عنه المركز، وضباب التصاوير فيه، فكانت خطابات أهل الحكم الحقيقي، حكام السودان، وحكومة الوطن الأقدم المتجددة، رجال الإدارة الأهلية. ثم إن مناخات الورشة تسر الناظرين، وتدفع المشاركين على العطاء، آراء واختلافات ضرورية ومقدرة. والفكرة التي أسهمت في تحقيق نتائج إيجابية وأفضل، بالنظر إلى فرص، أن ينظر الناس عن قرب، قبل أن تغرق الدولة في بحر الكراهية، إلى تجارب أقرب لنا، غير بعيدة عن الجوار، وقد كنت شاهداً على بعضها، يوم حُبست مع بعض سفراء الأمم المتحدة للنوايا الحسنة في (رواندا)، ذهبنا نستوثق من التدابير والإجراءات للجان التحقيق والمحاكم بعدها، واطّلعتُ عن قرب، لأسوأ أشكال حديث الكراهية. لا الكذب فيه أقلقني، ولا اللغة المتوحشة أزعجتني، لكن الصوت صوت المتحدث، كان يقطر دماً، سيف كلام مسلول بلا رحمة، وحروف تعوم في بحيرات بغض وكراهية، واستخفاف بالكلام والآخر، فباعد بينها الحقيقة والمعاني، لذاك وكل ما أعتقد فيه، أن الورشة جاءت في أوقاتها تماماً، والشراكات الذكية التي قامت عليها تؤكد أن هكذا مؤسسات تقوم فكرتها على المصارحة والحقيقة ثم الحقوق، قادرة على تحريك أشواط في ملف بالغ الأهمية. هذا أوان النظر بالتقدير له، فيه الإشارات كثيرة للإعداد والتحضير للورشة في مبتدأ استكمال ضرورات انعقادها. وقد عرفت برنامج الأمم المتحدة الانمائي UNDP لسنوات، وعملت معها الأمم المتحدة في برامجها، خاصة ما ارتبط بالسلام ثم التنمية ومناهضة العنف وحماية الأطفال، ووقفتُ يومها في قاعاتها، يوم أعلنت مواثيقها لحماية الطفولة، كنتُ قد مشيت والأحباب الفنانين من مدينة (ود مدني) على الأرجل ليومين، سعينا وقتها مع برنامجها للطفولة والأمومة (اليونسيف) ، لدفع الناس ليقولوا نعم من أجل إيقاف الحروب، ومناهضة خطاب الكراهية. والتقينا في رحابها بالزعيم (نيلسون مانديلا) وتحدثنا طويلاً، سكنتُ غير بعيد عنه، ومدينتي الأحب (نيويورك) تعرف خطواتي، وسمعت منه كيف قبل بالآخر ورضي؟ وكيف تعلم الغفران؟ وقبلها ينسى ويقبل. وهو عندي حلم كبير سعت له هذه الورشة، باتساع أفق شراكاتها الإقليمية والدولية، من بورندي وجنوب أفريقيا، وتجارب أقرب لنا، ثم أننا المشاركون استمعنا لها الحكاية الأصل في أسبابها الموجبة للانعقاد في هذا الفضاء الموحي، والحافز للمشاركة والعطاء بلا حدود ، لمناهضة الكراهية خطاب وفعل وأداء. وأظن أكادمية الأمن العليا للدراسات الأمنية والإستراتيجية أقدر الآن وفي كل الأوقات، مع الهيئة الوطنية لمكافحة الإرهاب لتحويل مخرجات الورشة، ولملمة الحوارات في ما بين الجلسات، وتلك عندي إشارات لها ما بعدها في تنوع الحضور والمشاركين. وأفهم اهتمام الدولة بها الورشة ولعلها في انتظار النتائج مثل الكثير من الشركاء. وفيها رسالة سعادة السفير حمد الجنيبي سفير دولة الأمارات العربية المتحدة في الخرطوم إشارات لشراكات قادمة، ومن هناك أفهم معنى العلاقات في تلك المنطقة لا الحساسة، إنها الأكثر وضوحاً، وتجارب التعاون قُطرياً،والامتداد الإقليمي ينعكس الآن عليها العلاقات الدولية، الشراكات مهمة في معالجة العنف بلا معنى، ومناهضة خطاب الكراهية، والسعي للتعايش، مع اختلافات تبدو مظاهرها من الوهلة الأولى، لكنها الدولة الراشدة بسياساتها الحكيمة، تعين على بناء جسد قوي للدولة، تجتمع فيه الثقافات والعادات والتقاليد، وتبني بين المعتقدات جسوراً تمشي بها نحو التنمية المستدامة، كما حدث وأشار إليه سعادة السفير حمد الجنيبي عن تجربة الأمارات الدولة والحكم في مناهضة العنف وخطاب الكراهية، وهو نموذج أفضل يومها في بند التطبيقات العملية لمناهضة العنف، كل أشكال العنف المفضي للفوضى. ولعلي الأسعد بها تفاصيل الورشة، يوم يجلس لها الخبراء لتجميع النتائج، وفيها الأوراق والمداخلات بعدها من المشاركين، وكانوا ألوان طيف يتسع بكل جمال واتساع القاعة البهية. تمنيتُ عرضاً فنياً يمشي في ذات اتجاه أهداف الورشة الفخمة .
كنتُ قبلها الأسعد بحواري مع سعادة اللواء عصام الدين مرزوق سعد رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الإرهاب، ثم تقاسمنا بعدها الورشة حوارًا يأخذنا لمعاودة الحوار مع الآخرين من أجل بناء رؤية وطنية لمكافحة والتصدي لخطاب الكراهية.
أُزيّن الدهليز بواحد من أجمل تعابير الفنون في سعيها المتصل لمناهضة خطاب الكراهية، لفنان عرفته سنواتي الأولى في عواصم الدنيا، الشاعر والرسام والنحات الفنان الراحل السويدي (كارل فريدريك)، منحوتة رائعة تقف ببهاء أمام مبنى الأمم المتحدة في (نيويورك) كنتُ أخطط للعرض الثالث لي فيها المدينة، ونحن نحتفي بافتتاح مركز مهدي للفنون في (نيويورك) بعد أن أكمل الحبيب الأمير حسن عيسى التجاني رئيس مجلس الإدارة إجراءات التسجيل هناك. (المسدس المعكوف)
يقف في ساحة الامم المتحدة في (جنيف) وفي مدينة (كيب تاون) في جنوب أفريقيا .
وعدي أن أُكرّس دهليزاً قادماً عنها سبل ووسائل مناهضة العنف وخطاب الكراهية عبر فنون الأداء، كما فعلنا، وأن تنتظم ورشة بمشاركة الفنانين وأهل السياسة وصناع الأحداث، لا تراقبها أجهزة الإعلام، بل شريك حقيقي فيها.
نعم لنقفل معا كل (مواسير المسدسات) والبنادق، وكل أدوات الموت، وندفع بالقدر المستطاع، فرص السلام والحياة الآمنة.
سلمتوا أعود للفاشر أبوزكريا، شوقي ليك طال

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى