منى أبوزيد  تكتب : لعنة وظائف الخارجية..!

“أنا اتَّهِم”.. إميل زولا..!

في معاينات الطلاب الجُدد في كلية القانون بجامعة الخرطوم سألني د. “الفاتح الرشيد” أستاذ القانون الدولي ونائب عميد الكلية حينها “لماذا اخترتِ دراسة القانون”؟. فأجبته بكل صراحة وحنَق واستسلام ونزاهة “لأنني لا أستطيع أن أدرس الاقتصاد والعلوم السياسية”، فعلى الرغم من النسبة العالية التي أحرزتها في امتحانات الثانوية العامة السعودية، إلا أن مادة الرياضيات – التي تشترط الكلية دراستها للقبول – لم تكن ضمن مواد القسم الأدبي في التعليم الثانوي بالسعودية..!

وهكذا رضيتُ بكلية القانون التي أمضيتُ سنوات دراستي فيها وأنا أقرأ لماركيز وجورج أمادو وإزابيل الليندي وكازانتزاكيس وأندريه موروا وجوستاف فلوبير وإي جي ديه موباسان وريلكة وكافكا ودانتي وهيجل وغيرهم، أكثر من قراءتي للورد دينينق واللورد ماكبيث وغيرهم من جهابذة القانون الذين كانت مؤلفاتهم تملأ مكتبة الكلية. وكنتُ في أيام السنة الأولى أحرص على حضور محاضرات د. الفاتح الرشيد في مادة القانون الدولي التي كانت مقررة على الصف الرابع – لأنها الأقرب لمجال الدراسة الذي أحببته، من باب التعويض ربما – بعد الاستئذان منه، وبعد ترحيبه طبعاً. كان ذلك في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، “نعم، لقد هَرِمنا”..!

مرّت السنوات وعرفتُ قيمة دراسة القانون الذي صِرتُ أدين له بالتفكير المُنظم والمقدرة على التحليل وقوة الحجة في مُناقشة الأفكار وفلسفة المواقف واجتراح الحلول. لكن ذلك الحلم الذي تَبدَّد ظلّ باقياً في داخلي، مثل بتلَةِ وردٍ مطرزة في قماش الذاكرة الناعم..!

ثم شاء العلي القدير أن تفتح وزارة الخارجية أبواب توظيف الخبرات بدرجة مُستشار، فتلفَّتَ قلبي نحو الحلم القديم، وهرعتُ إلى مبنى مفوضية الاختيار مُحمّلةً بكل ما طلبوه من شهادات خبرة، وجلستُ مع نحو ثلاثة آلاف من زملائي للامتحان الإلكتروني، واجتزته بسلامٍ. ثم جلست للامتحان التحريري واجتزته بنجاحٍ مُؤكّد. ثم جلستُ للامتحان الشفهي مع نحو مائة وبضع وستين من زملائي، وبقينا مُشرئبين في انتظار النتيجة، وكل واحد منا يحلم بأن يكون ضمن العشرين المبشرين بالوظيفة. لكن إرادة الله شاءت أن يصدر قرار جمهوري بإلغاء تلك الوظائف، بعد لغط إعلامي كثيف بشأن تأخر مستحقات موظفي وزارة الخارجية حينها..!

ثم اندلعت ثورة ديسمبر المجيدة، ووضعَتُ خلافات شركاء الثورة أوزارها، وجاءت الحكومة الانتقالية، وبدأت عمليات المراجعة وإزالة التمكين، لكن قضية الممتحنين المتضررين من إلغاء وظائف الخارجية لم تجد لدى الحكومة أُذناً صاغية. وتم فتح باب التقديم – مَرّةً أخرى – لذات الوظائف، وهرعتُ مرةً أخرى إلى مبنى مفوضية الاختيار مُحمّلةً بكل ما طلبوه من شهادات خبرة وأكثر. واجتزتُ الامتحان الإلكتروني، وجلست لامتحان تحريري ما أنزل الله به من سلطان، واجتزته بحسب معدلات النجاح التي قرّرتها جامعة الخرطوم التي وضعت ذلك الامتحان التعجيزي وقامت بتصحيحه وتحديد معدل النجاح فيه، ثم جلستُ للامتحان الشفهي، وأبليت فيه بلاءً حسناً، ثم تم الإعلان عن النتيجة، ولم أكن ضمن المُختارين، وباركت لزملائي الذي تم اختيارهم..!

لم أكتب عن كل التجاوزات التي شابت عملية الاختيار في هذه الوظائف في المرة الأولى، ولم أكتب عنها في المرة الثانية، سَمِّها مثاليةً إن شئت أو سمِّها عقلانية، لكنني – رغم تحفظاتي الكبيرة والكثيرة – حاولت اجتناب تضارب المصالح الذي قد يُؤثِّر على حياد الكاتب الصحفي عندما يجد نفسه – وفي ذات الوقت – الخصم والحكم..!

ظللتُ أراقب في صَمتٍ كل ما يكتبه زملائي من الكُتّاب الصحفيين وما يثيرونه من جدل بشأن فساد أو بطلان عملية الاختيار لهذه الوظائف – “والتي سوف أعود إلى تفنيدها بإذن الله في مقالٍ لاحق” – ظللتُ أراقب في صمتٍ، تصريحات وزارة الخارجية، وحديثها عن تشكيل لجنة استئناف – وليس تحقيق – وما رشحَت به مواقع التواصل وقروبات الواتس آب الخاصة بالمُمتحنين من أدلة على بطلان اختيار أسماء بعينها، ومن شواهد وقرائن على شُبهات فساد ومُحاصصات حزبية شابت عملية الاختيار، ولم أنبِس بِبنت شفَة حتى أتاني اليقين..!

وها أنا ذي اليوم، وبعد الوقوف على بعض الحقائق المُؤسفة كاملةً، أقولها بملء الفم –  وعلى طريقة ذلك المقال الشهير للكاتب الفرنسي العظيم “إميل زولا” –  يا سادة يا كرام “أنا اتَّهِم”..!

 

 

منى أبوزيد

[email protected]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى