علي مهدي يكتب : يا الفاشر أبو زكريا شوقي ليك طال

من فرجة (بين سنار وعيذاب)، في محفلنا الأول في دارفور الكبرى في فاشر السلطان كان الاحتفاء في كل مكان، وبلا مواقيت، لا فرق بين المحفل والمحتفلين .

الناس من كل الأماكن، الاتجاهات كانوا هناك ذاك الصباح الباكر، فهم الاحتفال والمحفل فاشر السلطان

مسرح البقعة طاف مدن وقرى دارفور الكبرى، منذ أكثر من عقدين، يشارك الناس، كل الناس، في النظر لمستقبل أفضلم مكن.

دهليزي يعود بي لعقود مضت، وسنوات مشت بنا والفكرة الأولى لميلاد فنون الأداء من أجل الإسهام في قضايا السلام ومناهضة العنف، كل أشكال العنف المفضي للفوضى.

وما الحرب والاقتتال، إلا أكثرها في الفوضى، من أنواع هدم قدرات الإنسان لصناعة الحياة.

دخلتها مدينتي الأحب (فاشر السلطان) أول مرة قبل سنوات، تمتد لعقود، تقترب من الثلاثة الآن، لا تنقص بل تزيد. جئتها يومها، والصور عندي عنها موحشات، الناس الذين أحب، وتربطني بهم علائق الدم والود، وذاك أكثر قدرة، الود المفضي للتعايش، دخلتها بعد أن تجمعت عندي معلومات، تصاوير، أدخلتني مع تبادل المعلومات بين عواصم الدنيا، وأخبار في الوسائط كلها ما فيها خير، وتحولت والعاملون إلى جملة أسئلة، وكان بيننا والخارج، الفاكس والإيميل، نكتب ونقرأ، وتزداد حلقات الاندهاش مع الانزعاج.

وكان مكتبي في المبنى الأحب (دائرة المهدي) والشارع المفتون به منذ زمن، شارع الجمهورية. يوم كنت أخرج من مكتبي القديم في وزارة الثقافة والإعلام، أمشي حتى ألتقيه، والمسافة أقرب، أدخل الشارع الفسيح، أنظر في الفضاء، خلفي المباني العتيقة، وزارة المالية (البوستة). وبحر أزرق يمشي بلا تردد نحو مصب مؤقت، ثم يعدو عجلاً إلى مقرن النيلين بعد العناق و( المطايبة) والسؤال، يمشونها المسافات الطوال بلا ملل، تلك خيالاتي، وجلستي في المقهى الأشهر (المحطة الوسطى)، أمرّ بالمباني العتيقة، وأنظر في نواحيها، وأفكر وأستعيد التصاوير، والأسئلة العصية ترابط في خيالاتي ولا تنفك .

هل مرّ السلطان علي دينار، بعد خروجه من أم درمان ها هنا؟ وقف قليلاً غلى جوار حائط القصر المنهار، كما تبدو في عينيه خيالات انهزام الدولة المهدية، التي حارب من من أجلها لسنوات، وبيعته في الرقاب، له وأهله. ترك الملك والصولجان، وجاء للبيعة ونصرة المهدية، جندي ومحارب، وهو الآن يخرج منها الدولة التي ساوت بين الناس جميعًا، وصنعت ما صنعت، وربطت بين الناس كل الناس. وما نقصت بيعته برحيل إمام الدين عليه السلام، هي بيعة في الرقاب، وقف لها بعد دعوة السيد محمد المكي بن الشيخ إسماعيل الولي قنديل كردفان، لإتمام البيعة، للخليفة عبد الله بن السيد محمد الواوي عليه السلام. وأمشي معه سلطان الزمان وقتها، نحوها أمدرمان من عند حدودها الجنوبية، من عند ديم أحمد ود سليمان، و(الفتيحاب) قائمة، سهلًا بين صحراء في الغرب، تمتد حتى (دارفور الكبري) .

نظر الأمير الشاب وقتها، والسلطان بعدها بثوانٍ. سبحان مغير الأحوال، كان وريث ملك وسلطنة عرفتها أفريقيا، تحكم وتبني وتدق الدينار والريال، عملة للتداول، يحفظ الناس أسعار ما يتبادلون من سلع، وتبني المدن قصور وسرايات شاهقات، وتتيح للرعاة خيارات المراعي الخضر، تمشي فيها المواشي في سهولة ويسر، وتنمو فيها الأشجار الباسقات، وتزرع الحقول بالحبوب، فتعود للناس أعياد الحصاد، ومواسم التعايش، لا يعرف من جاء قبل من؟ كلهم ينتمون للأرض التي ولدوا فيها، أو هاجروا إليها، وعمروها في سلام. فكتبوا الأغاني، ونظموا الموسيقات الجميلة، لكل فصل وعادة وحالة، فكان الغناء والتمثيل من فنون ذاك الزمان، وأبدعوا فتركوا تأثيرهم الفني الخلاق على كل أفريقيا الجوار والأبعد. هم سادات تلك الجبال والوديان والسهول، مثلما زرعوها وعمروها، اخضرت أيضًا بفنون شعبية وتقليدية، بين الخاص والعام (نفاج) تلج إليه الآن فنون العصر. ومملكة في قديم الزمان مهبط للناس في طريقهم للحج والعمرة وما بينهما.

تلك دارفور الكبرى التي زرتها قبل عقود.

أحاول وأحبتي من أهل الفنون أن نرمم الحائط الكبير الذي ينهد بعضه بفعل العنف. جئتها ومسرح البقعة ننظم العروض في المدن والقرى والأحياء، في الميادين والشوارع، في المدارس، ما تبقى منها. وكانت نزعات العنف تنامت يومها، فقلت وقلنا مسرح في مناطق النزاع والصراع، نجاهد أن نسهم بالقدر المستطاع أن نخفف على الناس الغلابة آثارها الحرب اللعينة، فطفنا كل أنحاء دارفور الكبرى، واقتربنا من حدودها الأبعد مع جيران يتشاركون الدين والمعتقد، وفي العادات أقرب لبعضهم البعض.

منها دارفور الكبرى، والمدن البهية، خرجنا للعالم، وعرفت الدنيا تجارب الفنون التمثيلية الأحدث، فطبقنا الفكرة. وكان التكوين والفرجة، ومسرح للناس، كل الناس في الشارع، ونقل العالم تلك العروض الكبيرة التي حققت أرقاماً قياسية في تعداد العروض المسرحية الكبرى.

وقفتُ يومها في (مركز كندي للفنون في واشنطن) أقدم التجربة عبر التصاوير الثابتة والمتحركة، وأقول عنها القليل، وأترك لمشاركين تابعوها، ورصدتها منظمات ومؤسسات تُعنى بفنون العرض. ومنحتنا جائزة (حرية الإبداع)، بين أكثر من ألفي مترشح لها من أنحاء المعمورة.

وقف الرجل الأنيق يومها يقدم نتائج بحثه ورصده. وقال إنه فقط نظر للجمهور الملتف حول مكان العرض، دائرة تضم وقتها والدنيا (عصرية)، عصرًا منحنا ضوء النهار، وسحب متقطعة سهّلت على الجمهور الكبير المتابعة ثم المشاركة .

قال انهم كانوا أكثر من اثني عشر ألف متفرج، في مدينة (الجنينة)، غير بعيد من مركز المدينة، في واحد من أوسع ميادينها، وتجمع لذاك العرض محاسن الصدف، معتمدها فنان ومبدع وناقد وباحث الأمير الدكتور فضل الله أحمد عبد الله.

لا تحرسه ذاك العرض بعد رعاية الرحمن إلا محبة للفنون، والأغنيات الشعبية التي يحفظونها. ومنها (الجنينة) عاصمة دار (مساليت) طفنا أنحاء أقرب وأبعد في (نيالا) و(الضعين) و(كاس). وميادين المعسكرات يومها تعج بالناس الأجمل من كل الظروف في (أبوشوك) و(السريف) و(كلمة)،وغيرها وغيرها، ثم أخيراً في (نيفاشا) في أطرافها فاشر السلطان، ذاك عندي، نقطة سطر جديد، هناك في تلك الظهيرة كانت إشارات كبرى في معاني تقدير الجمهور للمبدع المخلص للفنون. ونجم جديد يولد قويًا بمحبة الجمهور عبد الله عبد السلام (فضيل) ومجموعته التمثيلية محبة خالصة تحتاج مني لكتابة عن معنى النجومية؟

وكنا قد أمضينا أياماً كعادتنا عندما نلتقي منذ الفكرة الأولى لميلاد الهيكل والملتقى الإبداعي السوداني. فريق فني موسيقي غنائي تمثيلي.

وصلناها فاشر السلطان، نستجيب لدعوة كريمة للمشاركة في واحد من الأحداث الكبرى التي يشهدها الوطن، أين تقف أنت من المشهد الوطني؟ احتفاء بجهود بناء جديد، لقطعة من وطن كبير. وفي الخاطر انتهاء النزاع والصراع، وبدايات العهد الجديد لدارفور الكبرى. نفهم أن الأمر فيه من الصعوبات الكثير، لكن الأحلام دوماً ليست مجانية، تدفع لسبيل تحقيقها الكثير. فكنا من بين المشاركين بأدوات الفنون. المقاصد أن نجعل ذاك اليوم قبلة، وبعده بهيج، مقبول الحدث فيه، والقصد أن تنتظم المدينة وما حولها، المسارح والساحات فيها، بأشكال فنون الأداء موسيقى وغناء، ومسرحاً في الشارع والميادين، بذات شروط تجارب البقعة المباركة القديمة، وقد أضحت الآن عادة للكثيرين، يفعلونها كل الأوقات، البعض يمشي بها تجارب أبعد من البقعة في النجاح، وذاك سحر الفن.

كنا يومها شهوداً على الاحتفاء بتنصيب الأخ القائد مني أركوي مناوي حاكماً عامًا على عموم دارفور الكبرى، لينضم إلى سلسلة من الحكام الأخيار، من عند التأسيس، إلى عصور ما بعد الدولة غير البعيدة، ليجلس في قصر السلطان ويلبس قلنسوة السلطنة. الحكم هيبة، وصلاح من عند الرحمن. ثم كانت بدايات الاحتفال فمشى الحبيب المشخصاتي عبد الله عبد السلام (فضيل) والفرقة الجميلة، إلى ما كان معسكر (نيفاشا) وأضحى الآن ملتقى للناس بلا نزاعات. وعندي إشارات هنا عن حجم المحبين لهذا الفن، وشهادتي صائبة لا جرح فيها ولا تنوين، (فضيل) والمجموعة الشابة معه من مشخصاتية العصر، يشكلون الآن نموذجاً للمبدع السوداني يستحق النظر إليه بتقدير. وقدم الفريق الكبير المكون من البقعة، ومجموعة فضيل الكوميديا، عرضاً كبيرًا امتد لأكثر من ساعة وسط سوق الفاشر الكبير، جمهور واسع البصر والبصيرة، يحيط بالفرجة دائرة مكتملة الاستدارة، لا ينفع معها تنظيم، أو تنبيهات، اجتمعوا كيف؟ والدعوة مِن مَن؟ لكنهم ربطوا بينها الاحتفالية وتنصيب حاكم عموم دارفور. وتلك عندي أعظم النتائج في صباح اليوم التالي، وخرجنا بصعوبة وتمردنا على الزمن المخصص للعرض والنظام والمواقيت .

وأظن واثقاً أن الاحتفال الذي كنتُ سعيداً بالحضور والمشاهدة مع ذاك الجمهور الكبير في أوسع ميادينها الفاشر، نرده إلى أشواق الناس للسلام والاستقرار، وأحلامهم بالتنمية، وتنمية مستدامة مستحقة.

أيامي فيها الفاشر أبو زكريا أعادتني إلى أشواق المبدع والممثل، بعيداً عنها الاجتماعات والسفر والأوراق والندوات، إلى أجواء المسارح المفتوحة للناس، كل الناس.

الفاشر أبو زكريا، وقعت في دفتر حضور القبول لعهد جديد، وسعي لكي تكون ممكنة بالتصالح والتوافق، ثم بالفنون والغناء المجيد، وموسيقى الوطن الحاضرة، ومسرح للناس حيثما كانوا.

والبقعة حاضرة، تستعيد جولاتها الكبرى.

وهل ذهبنا إلى مسارح نيويورك، وباريس، واشتودغارد، ومانيلا، وأديس أبابا، وإسطنبول، والفجيرة، وطهران، وواشنطن الكبرى، ونيوجرسي، من غير غبار وشمس ومحبة أهلنا في دارفور الكبرى، وعطبرة، وحجر سلطان، وأم بدة، والفتح، وجبل أولياء . وكل عروضنا في أنحاء الوطن.

ومن غير جمهور مهرجان البقعة الدولي للمسرح بالملايين، ومئات العروض في المسابقات التمهيدية والمسابقة الدولية. ما كان لمسارح الدنيا تفتح أبوابها لعروضها الجميلة مساحة وأخرى من غير تلك المدن والحلّال والقرى الجميلة بأهلها .

وعدنا لأيام الفاشر أبوزكريا نشهد الاحتفاء ببداية نظرة صادقة، وحلم لاستقرار وسلام دائم، إن شاء الودود.

لم تخلُ أيامي هناك من حوارات، في شوارع المدينة بالفنون والسياسة وعلوم الاجتماع .

سلمتوا دهليزي أرتاح على وطن وحلم قديم يتجدد وأهله يتجددون

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى