آمال عباس تكتب.. وقفات مهمة: السياسة والأدب (2)

الرأي العابر الذي ورد قبل أسبوعين في مكان وقفات من العمق العاشر  أثار الكثير من المناقشات التي زخر بها بريد الصفحة واللقاءات الشفهية مع قرائها الأعزاء.

ولذلك رأيت أننا نحتاج لوقفة أخرى مهمة وإن كان غرضي أولاً من الموضوع خفيفاً.

في رسالة شبه غاضبة من القارئ عاصم قال فيها: إذا كنت جادة ومخلصة فيما تتناولين من موضوعات لماذا لم تتحدثي بصراحة عن الالتزام في الأدب؟ وأظنك لا تستطيعين لأن أسوأ الأدباء هم أكثرهم التزاماً وأمامك الكتاب السوفيت.

وفي رسالة أخرى من القارئة هنادي وإن كنت أشك في “الخط” تقول فيها إنك أردت اغتيال الفن والإبداع  بربطك له بالسياسة.. وعلى كل أنا أكره السياسة وأرى أنها شغل رجال فقط وأعلم أن هذا يغيظك وقد قصدت ذلك.

المهم وصلتني كما قلت العديد من الرسائل التي تناقش هذه المسألة منها الغاضب ومنها المتفهم للموضوع.. ولما كان حيز الصفحة لا يسعني وقرائي رأيت أن أعود الى مناقشة بعض الآراء التي وردت من القراء لنضع الموضوع في الإطار الذي أردت له أن يكون فيه.

الرأي العابر الذي ورد من قبل تناول الموضوع من جانب واحد هو جانب وحدانية حياة الإنسان بالشكل الجديد.

أي أنه ليست هناك أمور تقر داخل الصالونات والغرف المغلقة يقرها دهاقنة الدهاء والحيلة والمراوغة.. ويقال إنهم السياسيون.. وأمور أخرى تقر على مستوى الشعب والجماهير معاناة وبهجة يعبر عنها الأدباء والفنانون.

فهذا سقط على مستوى عالم الإبداع يوم سقط مفهوم “الفن للفن” وانتصر مفهوم الفن للحياة وبالحياة.. ويوم غادر الفنانون والأدباء أبراجهم العاجية وغاصوا في حياة الناس والأمم.

من هذا المفهوم وهذا المنطلق، أناقش قضية الالتزام التي وردت في رسالة القارئ عاصم.. وقضية الأخت هنادي التي تكره السياسة وتعتبرها من شغل الرجال غير الأدباء والفنانين.

بالفعل قضية الالتزام ليست قضية ثانوية في مجال الأدب والفن ولا سيما ونحن نضع أمامنا مفاهيم جديدة للسياسة والأدب معاً وتدور العديد من المناقشات على مستوى العالم بصورة عامة وعلى الصعيد العربي بصورة خاصة.. وعلى الدوام يكون النقاش حياً وحاراً حول حرية الفنان في مجتمع الثورة. ولعل هذا جعل عاصم يضع أمامي قضية الأدباء السوفيت ويشير الى المعركة التي دارت بين جان بول سارتر والبير كامو في مطلع الخمسينات حول الالتزام في الأدب.

فطالما اتفقنا على أن الحياة الإنسانية كل لا يتجزأ وأن الأدباء والفنانين أناس ليسوا عاديين وتختلف أبعاد نظراتهم عن الآخرين أو بعبارة أخرى يبحثون في الماضي ويوظفونه ويضعون ويصورون الحاضر ويبشرون ويستشرفون المستقبل.

ومن هنا تكون النظرة الى الالتزام واللا التزام قائمة هذه الأعمدة الثلاثة وبالطبع أن من يخرج من هذا الإطار يكون قد خرج من الزمن والصورة مع مراعاة أن هذه الأطر الثلاثة تعبر عن كل جوانب الحياة.. السياسية والعاطفية والاقتصادية ويكون الالتزم هنا تعبيراً عن الشعب وعن النظام الذي يعبر عن مصالح ذلك الشعب الرؤى الجديدة للحياة.

صحيح أن “جاد نوف” عندما كان مسؤولاً عن الثقافة والأدب في روسيا في فترة حكم “ستالين” حدد للفنانين والأدباء موضوعات معينة وأساليب فنية لا يخرجون عنها.. وقد ظلت تلك الفترة وحتى اليوم نموذجاً للجمود الفني والفكري في العالم كله وعند النقاد الروس بصفة خاصة.

وفي هذه كان “جاد نوف” متأثراً بالرأي الخاطئ الذي كان يعبر عنه “ستالين” حول قضية الفن والأدب والذي لا وجود له الآن على صعيد جميع المجتمعات الاشتراكية.. يقال إن ستالين كان يمنع الشعراء والكتاب الحديث عن عاطفة الحب ويعتبر هذا أمراً يهم اثنين فقط الشاعر وحبيبته وكان قد علق على أحد دواوين الغزل قائلاً “لماذا لا تطبعوا منه نسختين واحدة للشاعر وأخرى لحبيبته”.

هذا نموذج واحد يا أخ عاصم.. وقد ثار الفنانون الروس عليه وانطلقوا الى حياة فنية أكثر خصوبة وحرية وتعبيراً عن الإنسان الخير الراغب في العدل والسلم. والأدب الروسي المعاصر خير شاهد.

ونحن عندما نتحدث عن الالتزام جانب الشعب لا نقصد الصورة التي رسمها دعاة نظرية “الفن للفن” والتي تتبناها المجتمعات الرأسمالية متخذة منها مخدراً للشعوب باسم الحرية الشخصية وحرية الفنان داعين للانحلال والتفسخ والعبثية المطلقة.. وبهذا أضع امامك يا أخ عاصم ما يكتبه “كولن ولسون” في جميع رواياته وبالذات “الشك” وطقوس في الظلام.. و”ضياع في سوهو” وأيضاً أضع أمامك رواية “العراب” لماريو بوزو والعديد من الكتاب الغربيين الآخرين وهذا قليل جداً من كثير جداً.

وباختصار أقول إن أدبنا وفننا الذين نؤمن بأنهما بعيدان عن السياسة والسياسة تعبر عنهما هما ثريان ومفعومان بالحيوية.. وهذا الموقف من قضية الالتزام ملائم جداً للمناخ الفكري الذي يسود العالم اليوم.

فقبيل بداية القرن العشرين وبعد نضال  وتاريخ طويل وشاق قاده الإنسان في مجال التعبير من يوم أن وجد نفسه على ظهر هذه الأرض وقبل أن يعرف الكلمة المكتوبة منها اي منذ أن كان يعبر بالرسومات والدلالات يعيش العالم هذا المناخ المتحرر من الجمود العقائدي والتطبيقات الفكرية المنغلقة والتي تبعد عن جوهر الروح الثورية والروح الاشتراكية معاً.

يستحسن أن نقف هنا وأعد الأخت هنادي بأن أناقشها في الأسبوع الآتي مع تحياتي لكل الذين اهتموا بهذه المسالة.

عزيزتي هنادي

وصلاً للحديث الذي كان يرد هنا في المدة الفائتة حول الأدب والسياسة.. نقف اليوم مع الأخت هنادي.. وكنت قد قلت ربما لا تكون هنادي ولكن هذا لا يهم.. والمهم القضايا التي أثيرت.. وفي رأيي أنها تستحق النقاش والنقاش المستفيض.

هنادي تتهمني في البداية بأني أقوم بعملية اغتيال للأدب عندما أربطه بالسياسة ومن ناحية أخرى تقول لأجل إغاظتي أن السياسة نفسها من شغل الرجال وحدهم.. وتقول أيضاً بأن أسمح لها بأبداء سخريتها وضحكها على قولي بأن العقيدة الغزلية قد تخدم غرضاً سياسياً.

يا أخت هنادي أرجو ان تتأملي طويلاً فيما أحاول أن أورده سريعاً نقاشاً لنقاطك التي أثرتيها واحدة.. واحدة.. ولنبدأ.

اغتيال الأدب:

لا أريد أن أكرر ما قلته سلفاً بأن الوقت الذي يعيش فيه المبدع خارج الزمن دون أن يؤثر ويتأثر.. فقد ذهب الى غير رجعة.. وانتهى الوقت الذي كان الشاعر فيه ينظم قصائده عن الآخرين بمعزل عن نفسه ومما حوله متوسلاً ومتسولاً.. غايته اثارة الحماس والإعجاب والحصول على الدراهم.. وبمعنى آخر يا أخت هنادي كل ميلاد قصيدة اغتيال للأدب والإبداع والفن على بلاط السلاطين والملوك ويتم ذلك دائماً بالأسلحة “الميتة الصدئة”.

“حكي أنه كانت للرشيد جارية يحبها كثيراً وكان اسمها خالصة.. جلست ذات يوم عنده وهي في كامل زينتها من الجواهر والدرر ودخل عليهما أبو نواس وأخذ يمدح الخليفة الذي كان في انصراف عنه مما جعله يخرج غاضباً ويكتب على الباب:

لقد ضاع شعري على بابكم

كما ضاع در على خالصة

وبلغ الخليفة خبر بيت الشعر وأمر باستدعاء أبي نواس.. الذي أتى وقبل أن يدخل على الخليفة مما تجوبت العين من كلمة ضاع من شطري البيت ودخل على الخليفة الذي ابتدره سائلاً ماذا كتبت على الباب فقال كتبت:

لقد ضاع شعري على بابكم كما ضاء در على خالصة

فأعجب ذلك الرشيد وأمر له بألف درهم.. وقال أحد الحاضرين هذا شعر قلعت عيناه فأبصر.

كانت تتم عملية هذه عند الأدباء الذين لا يتطلعون الى المستقبل إلا في دوائر الأفعال التي يتوقعون منها نفعاً خاصاً.. ولا يفكرون في عالم الأدب والفن إلا بمنطقية حسابية فيمن من الممنوحين بجزل العطاء.. ولم يبشروا بقيم جديدة.. وافتقد نتاجهم الصدق الأدبي وأحيط به هالة من الانفعالات الكاذبة والمبالغات الكثيرة.

المهم قصدت أن أقول للأخت هنادي لم يقتل الأدب يوم ربط بالسياسة وإنما بعث يوم ربط بقضايا الإنسان.. بمشاعره العامرة وتطلعاته المشرقة.. يوم ترجم المبدع أحلام وأماني الأنسان نحو الحياة السعيدة والغد المشرق.. وبمعنى آخر يوم وقف معه في معركته مع الحياة من أجل الخير والسلم والسعادة.. يوم ترجم كل هذا الى كلمات تقهر الموت وإلى لوحات تفوق الطبيعة وإلى أنغام تصارع الزمن.. وهذه هي السياسة التي قصدتها.. سياسة هذا الزمان زمان الإنسان الذي عرف قدر نفسه وعرف كيف يوظف كل شيء في أعماقه.. وكل شيء حوله في معركته من أجل إحلال السعادة وإقامتها في حياته بكل جوانبها..

وإذا حاولت أن آتي بنماذج لامتلأت كل صفحات هذه الجريدة بعناوين الأعمال الفنية التي حولت مجرى التاريخ وقلبت حياة الأمم.

المرأة والسياسة:

الحقيقة يا هنادي لم أتحفظ لقولك السياسة للرجال, لسبب واحد وهو لأني أدرك أن مثل هذا الفهم ما زال موجوداً عند الكثير من الناس وسيظل هذا الفهم إلى أن تتم عملية زرع المفاهيم الجديدة في أذهان الناس.. ومثلما يصاحب عملية الزرع من مشاق شق الأرض وحرثها ووضع البذرة فيها وانتظار نمو تلك البذرة وإنباتها للثمار ويكون توقعي مستمراً للحقيقة الكبيرة التي تشكل واقع المرأة في بلادي وفي كثير من بلدان الدنيا التي عاشت ذات الظروف السياسية “اخدي بالك من السياسة هذه”.

فالاستعمار قديمه وحديثه يستهدف جانبين مهمين من حياة الشعوب التي ترزح تحت نيره.. الجانب الأول الاستغلال الاقتصادي بمعناه الشامل وهو ليس موضوعنا الآن.. والجانب الثاني هو السيطرة الثقافية بمعناها الشامل أيضاً مستغلاً في ذلك الدين والعادات والتقاليد والسلوك والعلاقات الاجتماعية.

والاستعمار في السودان مثلاً استغل الدين الإسلامي في شل حركة المرأة والمقصود في الأصل شل حركة المجتمع وتطور اقتصاده.. والاستعمار هو الذي خلق كلمة رجال السياسة وهو الذي صورها بأنها عمل شاق ومعارك ضارية لا تليق بالنساء الناعمات.. وظل يستثمر العديد من المفاهيم الاجتماعية والعادات والأمثال الحرة كان فاس ما بتكسر الراس.. والمرة شاورها وخالفها” يستثمرها الى يومنا هذا عن طريق أعوانه ودعاته بغية شل الحركة النضالية للشعوب ليضمن أطول مدة من الزمن ليمارس فيها عملية استنزافه لطاقات وخيرات الأمم.

ولكن مع هذا ولأن المرأة إنسانة قبل أن تكون نتاجاً مشوهاً للكثير من النظم الاجتماعية بمفاهيمها وعاداتها يحدثنا التاريخ عن جدارة من سنحت لهن الظروف بتولي مواقع سياسية قيادية على مر التاريخ الإنساني.. وحتى هنا في السودان لدينا الكثير من اللاتي لعبن دوراً في تاريخ هذه الأمة السياسي.

أرجو يا هنادي أن تكوني اقتربت من وجهة النظر هذه وأود أن أذكرك بأنك كسودانية بالضرورة حفيدة لحتشبسوت ولأماني تيري ولأماني “شختة” ولمملكة كجبي.. ولآمنة ملكة قلي وسنار ولمهيرة بت عبود ولشغبة شاعرة وقائدة المرغوماب في معركة استمرت ثلاثين عاماً بصرف النظر عن نوعية المعركة ورأينا فيها وأخيراً لرابحة الكنانية التي ظلت تسير على رجليها قرابة اليومين لتنقل نبأ وصول طلائع جيش هكس للثائر محمد أحمد المهدي.. هذا من جانب.. أما جانب سخريتك من أن العقيدة الغزلية تخدم غرضاً سياسياً فهذا ممكن وممكن جداً.

فالإنسان يمارس حياته بكلية مشاعره العاطفية والعقلية.. أي يمارس صنع الحياة بطاقات البهجة والأمل في المستقبل.. والشاعر الذي يتغزل في محبوبته في قصيدة عامرة بالمودة والحب يفجر طاقات البهجة للذي يعيش ذات الاحساس ولا يملك ملكة الإبداع التي عند الشاعر. وتفجير الطاقات عمل سياسي باعتبار أنه دافع للعمل والعمل وسيلة لخلق الحياة الأفضل.. حياة ملؤها الخير والبهجة والسلم, فالسياسة في معناها البسيط هي خلق مجتمع فيه خبز وسلم.

أخيراً أرجو منك ان تتأملي هذه الرسالة التي كتبها مناضل إبان الحرب العالمية الثانية.. اسمه “فوشيك” وتاريخ الرسالة إحدى أمسيات مايو 1943م وكانت آخر ما كتب إلى محبوبته “غوستا” إذ حكم عليه بالإعدام.

“في هذه الليلة سيأخذون غوستا الى بولونيا.. إن قلبي ورأسي مليئتان اليوم “بغوستين” تلك المخلوقة الإنسانة السامية النبل الرائعة الحمية.. تلك الرقيقة النادرة المخلصة لحياتي الشاقة المضطربة وفي كل مساء أغني أغنية لها.

أغنية تتحدث عن معارك الانتصار.. عن امرأة قوقازية تناضل بجانب الرجال في سبيل نيل الحرية.. تتحدث عن شجاعتها وعن كيف أنها لم تنجح في إحدى المعارك في الارتفاع من الأرض.

مقطع شعر:

من ديوان لحظات باقية للشاعر إدريس جماع ومن قصيدته “جنون الحرب” إليكم هذا المقطع:

تبدو بوجه تقشعر له جسوم الناظرين

عكست ملامحه الخرائب والضحايا الهامدين

وجه يبث من الكآبة كل إحساس دفين

صدمت دمامته وقسوته نفوس الآمنين

من كل أهل الأرض من كل الشعوب وكل دين

ولسوف تصرعهم اذا لم يصرعوها مسرعين

مربع شعر:

قال شاعر الشعب متغزلاً:

فرع المحلب القايم حجرة القيف

حياة النسيم ومدنوح العليف

بنجلس معاهن ويتم الكيف

تدفين الشتاء وتبرد كل ليالى الصيف

من أمثالنا:

شملة بت كنيش.. هي ثلاثية وقدها رباعي

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى