صلاح شعيب يكتب :هل نحن معصومون من الحالة التونسية؟

إلى أي مدى يمكن أن تصمد الفترة الانتقالية السودانية عند مقاربتها بالحالتين التي عوقت الديموقراطيتين المصرية، والتونسية؟ وكيف يمكن مقاربة أخطاء مرسي، والغنوشي، بأخطاء حمدوك، ومن خلفه قاعدته لمعرفة ما إذا كانت هناك مشهيات لعبد الفتاح البرهان، أو انقلابيين كامنين يتحينون الفرصة؟ وهناك أسئلة كثيرة في هذا الاتجاه ربما توضح لنا إجاباتها عن احتمالية تبلور انقلاب سوداني، وكيفية الرد عليه شعبيا في حال حدوثه؟
أعتقد أن هناك حاجة دائمة لتوقع الأسوأ في العمل السياسي، وفي ظل استمرار واقع التشظي، والاستقطاب الحاد وسط المكونات الثورية ربما يكثر المغامرون البلهاء. وقد كانت تلك الحاجة للتدبر الاستباقي موجودة لدى السياسيين في فترة الديموقراطية الثالثة. إذ توقعوا الانقلاب، وأردفوا جهدهم بسن “ميثاق الدفاع عن الديموقراطية” الذي وقعت عليه كل القوى السياسية آنذاك ما عدا الجبهة الإسلامية القومية، ولاحقا أصبح التوقع الأسوأ حقيقة.
فما حدث في مصر، وتونس، أدعى للاعتبار رغم قدرة الشعب السوداني على النزال الفوري. فبين منزلة الانقلاب على الدستور وبين منزلة التفسير السليم له اختلف متابعو المشهد السياسي التونسي حول خطوة الرئيس قيس سعيد. فقد انقسم التونسيون ما بين مؤيد، ومعارض، للخطوة، وكان من ضمن الذين عدوا الأمر انقلابا على الديموقراطية المفكر، والرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي.
ولكن المؤكد أن التعامل الخارجي الغربي مع الخطوة كان ملتبسا للغاية، وهذا هو مفتاح الاعتبار الأكبر. فالديموقراطية توجدها، وتحميها إرادة الشعوب لا الجهات الخارجية.
وبحالة أشبه في التعامل مع خطوة عبد الفتاح السيسي كانت ردود عواصم الديمقراطية الغربية تقف عند حدود الحث على كذا، وكذا. ذلك يعني أن الديموقراطية التونسية بصرف النظر عن فترة الممارسة التي امتدت لعقد بعد ما سمي الربيع العربي لم تكتسب حمايتها داخليا، وإلا كانت لهجتا واشنطن، وباريس، أكثر تشدداً. وعلى كل حال فما جرى هو تعطيل لأسس الديمقراطية بتفسير من رئيس منتخب لوثيقة التأسيس الديموقراطي. فالدستور التونسي لا يبيح للرئيس تجميد البرلمان بل يقول بضرورة انعقاده وسط هذه الأزمة، وما يماثلها. وهكذا ثبت قيس في قصره بضوء أصفر غربي تزامناً مع تصريحات له يهدد فيها بأن “من يساوم المواطن على صحته لا مكان له في الدولة التونسية”.
النهضة التي يتزعمها راشد الغنوشي كانت من الأكثرية الخاسرة لخطوة سعيد. ويرى مراقبون أنها وقعت بأخطائها في مصيدة الدولة العميقة التي خلفها زين العابدين بن علي في الجيش، والاقتصاد، والخدمة العامة. إذن هل تستطيع الدولة العميقة في بلادنا عرقلة المكتسب الديموقراطي لتنكب على السلطة بواسطة انقلابي سواء بواسطة كباشي، أو غيره؟
إلى حد كبير حالتنا تختلف عما حدث في مصر، وتونس. فمن ناحية الرأسمال الثوري الذي ملكه الشعب السوداني منذ نصف قرن نستطيع أن نبز الشعبين العربيين في الخبرات النضالية ضد الديكتاتورية. ومن ناحية نتيجة الانتخاب بعد الربيع العربي فإن الإسلاميين هناك هم الذين حصدوا أصوات الناخبين بينما كان إسلاميونا مستبدين ساعتئذ. والتجربتان المصرية والتونسية في ممارسة الديموقراطية أوجدت غبنا كبيرا داخل نفسية الشعبين نسبة لطبيعة الإخوان في حب السيطرة على الدولة، واحتكارها، مثلما حدث في تجربة السودان.
والآن خطا أردوغان بشكل متقدم نحو التمكين الاسلاموي خصما من مصلحة الأمة التركية. إجمالا يمكن القول إن إخوان مصر، وتونس، وتركيا، يتحدرون من خلفية واحدة تعنى بوراثة الدولة كلها بلا أي ائتلاف استراتيجي. هدفهم الأساس هو تحرير “الأمة” من بعض مظاهر علمانية لدولة ما بعد الاستقلال، والاستعاضة عنها بدولة الإسلام التي تكون جزء من دويلات في المنطقة تشكل خلافة إسلامية فيدرالية بقنبلة نووية. هذا هو الطموح المحلي القطري الذي يتطور إلى العالمية رويداً رويداً. ولكنه بالطبع مخيف للتيارات السياسية، والأقليات الدينية، والعرقية، والنساء، في الدولة المتعددة في مركباتها المجتمعية. وكذلك مخيف هو مشروعهم هذا لدول الخليج، وأخرى في المنطقة، وخارجها.
ولو لاحظتم أن الغنوشي، والزنداني، والقرضاوي، وبقية الإسلاميين المصريين، والتونسيين، وغيرهم الذين يتباكون على السطو على الديموقراطية الآن، كانوا يزورون الخرطوم، وهم مفتونون بتجربة زملائهم السودانيين، ويدافعون عنها حتى النخاع. ذلك لأن نظرتهم إلى الديكتاتورية، والديموقراطية، لا يتعدى كونهما منشارا..طالع ياكل، ونازل ياكل. فإذا تمكن الإسلامويون من حيازة دولة انقلابا، أو ديموقراطيةً، فهذا يعني في المحصلة العامة نصرا للإسلام، وإذا استخدم مسلمون آخرون ذات نهجهم عدوهم بأنهم يريدون أن يبعدوا الإسلام عن الدولة. أي أنهم هم ورثة الدولة، والإسلام معا، وليسوا هم فقط المفسرون لطبيعة الدولة، والمعتنقون للإسلام ضمن آخرين يقف الله محايدا بينهم، ويحكم بينهم بالحق يوم القيامة.
لا خوف على الثورة السودانية إلا من مكوناتها السياسية المتصارعة الآن، حيث يسعى كل طرف إلى تسجيل نقاط سياسية تتعلق بالثروة، والنفوذ، والسلطة، على حساب الآخر.
ما جرى في عامي ٢٠١٨ و٢٠١٩ كان درسا بليغا للحركة الإسلامية، ولقادة الجيش، والدعم السريع، والأمن، والشرطة، وكتائب الظل، والأمن الشعبي في السودان، بأن شباب البلد متميز بالجسارة، والصمود، والتحدي، وقادر على هزيمة كل هذه الترسانات النارية، وهو من بعد أعزل من كل سلاح. هذا الشباب ما دام موجودا فإن تجربتي مصر، وتونس، لن تتكرر عندنا. وإذا حاول أحد المغامرين بغير هدى فسيخرج له من كل فج عميق ذلك الشباب الصابر، والمراقب، ليرده خائباً إلى كوبر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى