بهاء الدين قمرالدين يكتب.. الحارة (16) بأمبدة.. رحم الثورة! (1)

الحارة (16)، (حي النصر) بأمبدة شمال محلية الأمير؛ أو كما يحلو لأهلها الطيبين تسميتها (الستاشر سوق أم دفسو)، ظلت ثائرة ومقاومة وعصية على حكومة الإنقاذ المبادة؛ منذ تسعينيات القرن الماضي وطوال ثلاثين عاماً من حكم الظلم والجبروت والقهر حتى سقوطها؛ حينما كانت الإنقاذ آنذاك في عز منعتها وقهرها وقوتها وتسلطها وجبروتها، وكانت الستاشر (رحم الثورة) والحاضنة الثورية والام الرؤوم لثورة ديسمبر الظافرة والمجيدة!

والحارة (16) هي النموذج الاجمل والاروع لسودان الوحدة والتلاقح والتمازج والانصهار؛ فأنت تجد فيها كل اعراق وقبائل السودان من الغرب والشرق والشمال والجنوب؛ يعيشون في محبة وسلام بلا تفرقة أو عنصرية أو جهوية، متكاتفين متعاضدين متماسكين؛ اذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى!

وانصهر كل أهلها في بوتقة الوطن الكبير والجميل، بكل ثقافاتهم وسحناتهم وألسنتهم واعراقهم، ذابت بينهم القبلية وانتهت الجهوية والعنصرية البغيضة؛ نشأ أهلها وربوا أبناءهم على حب الوطن واحترام وقبول وحب الآخر، فالكبير هو اب للجميع، والكبيرة هي ام للكل، وهم كلهم اهل واخوة واسرة واحدة؛ اندمجوا قلبا وروحا وجسدا واسموا انفسهم (الستاشراب) نسبة للحارة (ستاشر) امهم ودارهم وارضهم ووطنهم واصلهم وفصلهم!

ونحن نتشرف بأننا تربينا وتعلمنا من اهلنا البسطاء الانقياء الاطهار في الحارة ستاشر؛ تعلمنا منهم حب الوطن ونبذ القبلية والعنصرية؛ فنشانا فيها لا نعرف قبائلنا؛ فكلنا اسرة واحدة واهل و(لحم ودم)!

شببنا صغارا على الطوق ووجدنا امامنا عمنا الشايقي الراحل (الخزين) وعبد الكريم الكودة، واخانا الأكبر (فيصل الجعلي) وعمنا (آدم كندة) من جبال النوبة، وعمنا الراحل (خالد محمد أحمد) من رهيد البردي وهو حفيد الخليفة عبد الله التعايشي ود تورشين؛ وعمنا (ميوم) من جنوبنا الحبيب، وعمنا عبد الله اوهاج من كسلا الجميلة، وعمنا ومؤسس الحارة (برة محمد آدم) حفيد السلطان تاج الدين من الجنينة داراندوكا؛ وكنا نعدهم كلهم اعمامنا واهلنا وآباءنا الكبار حقا ويقينا.

فهم قد بذلوا لنا كل الحب والحنان واعتبرونا ابناءهم من اصلابهم، فأحببناهم حتى حسبناهم اهلنا وآباءنا بلا شك!

وفي الافراح والاتراح تجد اهل الحارة (16) متعاونين ومتعاضدين يشد بعضهم بعضا، كأنهم اسرة واحدة!

وفي الاعياد والمناسبات السعيدة، تجد كل ثقافات السودان الجميلة وتراثه الفني الغني يعرض ويقدم ويغنيه كل الأهل في ساحة الحي الكبيرة في قلب الحارة، وهناك رقصنا الكاتم والسنجك والمردوم، ولعبنا الكرنق والكمبلا والتانقي والهجوري و(المخيطة التي ضاعت)؛ وغنينا أغاني الطمبور مع النعام آدم واليمني وصديق أحمد، وركزنا (للسوط والبطان) مع أهلنا فرسان دار جعل واحفاد المك نمر وملوك شندي والباوقة والمتمة!

وفي بيوت أهلنا الطيبين وسوق أم دفسو اكلنا وجبات الكَول بعصيدة الجير والمرس والقراصة والاقاشي  والتكرين والملوحة والمناصيص وام تكشو، وشربنا ام جنقر والقدقدو والغباشة!

نعم كانت الحارة ستاشر آنذاك ولا تزال لوحة جمالية وفسيفساء ثقافية احتضنت كل ثقافات وعادات السودان الجميلة وصهرتها في بوتقة الوطن الموحد الجميل.

اما رفض أهلها للظلم ومقاومتهم ومجالدتهم لحكومة الإنقاذ الباطشة والظالمة وثورتهم ضدها؛ فذاك سفر وضاء من النضال مشرق وساطع وباذخ؛ يجب ان يوثق ويدرس لاجيال اليوم والغد، حتى يتعلموا منه معاني التضحية والثورة ورفض الظلم والبطولة والجسارة وفداء وحب الأوطان!

فقد خرج أهل الحارة (ستاشر) عن بكرة ابيهم وامهم كبيرا وصغيراً، يوم ان اعتقل أحد ضباط جهاز أمن البشير واقتاد (عروسا) من بنات الحارة وزوجها؛ اقتادهما ونزعهما من (الكوشة) تحت تهديد السلاح برفقة (كتيبة) من العسكر والأمنجية، وكل جريمتها انها رفضت الزواج منه ووصفته بأنه (كلب من كلاب أمن البشير والترابي) القتلة والمجرمين الذين قتلوا الأبرياء في دارفور وجبال النوبة وجنوب كردفان وازهقوا دماء الأبرياء وقتلوا النساء والأطفال والشيوخ بلا وجه حق؛ وقالت له بكل شجاعة وقوة: (انا ما بتزوج مجرم وقاتل وكلب للبشير والترابي)!

فغصب ذلك الضابط و(أسرها في نفسه)، وفرغ نفسه ووقته للانتقام منها ورد الصاع صاعين؛ واخذ يترصدها ويتتبع خطاويها ويحصي أنفاسها زمناً طويلاً، بيد أنه لم يجد لها ذلة أو (غلطة) واحدة!

فما كان منه إلا وان قام بتزوير البطاقة التموينية التي يتم بها صرف الرغيف لأسرتها؛ حسبما كانت تفعل حكومة الإنقاذ الظالمة للأسر؛ وتوفر لهم بها الخبز والسلع الاستهلاكية مثل السكر والخبز آنذاك، وقام ضابط الأمن بإضافة خمسة أفراد لعدد أسرتها الخمسة، وأصبح العدد الكلي عشرة أشخاص؛ ثم اتى يقود ثلاث عربات بوكس دبل قبين، مليئة بالجيش والعسكر المدججين بالسلاح؛ في يوم زواجها؛ وداهموا حفل زفافها واقتادوها مع زوجها إلى مكاتب جهاز الأمن بأمبدة، بتهمة وجريمة تزوير وزيادة وإضافة أفراد في البطاقة التموينية؛ حسب ما كانت تفعل اللجان الشعبية في تسعينيات القرن الماضي ابان عهد الإنقاذ الظلامي؛ حينما كانت البلاد تمر بأزمة خبز ودقيق ومواد تموينية ووقود حادة؛ شبيهة باليوم!

فما كان من أهل الحارة ستاشر، إلا وان خرجوا جميعهم عن بكرة أمهم وأبيهم، في حشد ضخم وهم يهتفون ضد الإنقاذ وجهاز الأمن؛ مطالبين باطلاق سراح ابنتهم (العروس) وبعلها؛ حتى وصلوا لمباني مكاتب جهاز الأمن بأمبدة جوار المحلية، وهم يهتفون عالياً ضد جهاز أمن الإنقاذ الباطش والضابط الذي قام باعتقال العروس الفارسة والشجاعة، وتجمهر خلق كثير أمام مكاتب أمن أمبدة، وشقت هتافاتهم عنان السماء: (لا لا لا للظلم.. لا لاعتقال النساء.. اطلقوا سراح العروس البرئية)!

عند ذلك لم يجد مدير مكتب جهاز الأمن بامبدة بداً وحلاً لتفريق هذا الجمع الغفير؛ الا باطلاق سراح العروس وزوجها؛ وبالفعل تم ذلك؛ فهتف أهل الحارة (16) الاحرار عاليا وكبّروا وهللوا فرحين بالنصر الكبير، وسيّروا تظاهرة حاشدة من امام مكاتب جهاز أمن امبدة إلى منزل العروس ومكان الحفل بالحارة وهم يهتفون بسقوط الإنقاذ.

وظلوا يرقصون ويفرحون باطلاق سراح ابنتهم العروس بعد ان صارت الفرحة (فرحة الزواج وفرحة اطلاق سراح العروس وزوجها)، فرحتين؛ وابتهجوا حتى الصباح، وكان يوما مشهودا من أيام النضال والانتصار بالحارة (16) حي النصر؛ رحم الثورة وموئل الأحرار!

ونواصل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى