بهاء الدين قمر الدين يكتب : الدكتور زاهر موسى: المرحومة والدتي كانت تبيع (التسالي والطعمية) كي تقوم بتربيتنا وتعليمنا!

نعى الدكتور زاهر موسى عبد الكريم داؤود؛ والدته الراحلة الحاجة (فاطمة أبكر) أم التيمان؛ التي توفيت قبل أيام خلت بأمبدة الحارة (16) سوق أمدفسو؛ وهو خارج السودان بألمانيا.

والدكتور زاهر موسى عبد الكريم؛ هو قامة علمية شامخة وأحد سفراء الوطن بالخارج؛ كان يعمل أستاذاً للاقتصاد بجامعة الخرطوم؛ واستطاع بجهده الشخصي أن يحصل على منحة لدراسة الدكتوراة بمعهد ماكسبلاند بألمانيا؛ متفوقاً على أكثر من خمسين ألف طالب أفريقي وعربي ومسلم؛ وبالفعل نال درجة الدكتوراة من معهد ماكسبلاند بألمانيا؛ وتم تعيينه أستاذاً مدى الحياة بالمعهد.

وبالمُقابل، قامت جامعة الخرطوم بفصله من عمله وأوقفت راتبه الشهري (الضعيف)؛ بعد أن وضعت الجامعة من قبل العراقيل في طريق سفره لألمانيا؛ لكنه بإرادته القوية وعزيمته وإصراره خرج؛ فكان أول طالب سوداني وعربي وأفريقي ومسلم ينال تلك المنحة!

فانظر الفرق عزيزي القارئ بين جامعة الخرطوم ومعهد ماكسبلاند بألمانيا!

توفيت والدة الدكتور زاهر وهو في الغربة بمقر عمله في ألمانيا؛ فنعاها بكلمات تفبض حزناً ودمعاً؛ بيد أنّها تسربلت برداء الفخر بالأصل والاعتزاز بالمنبت والأم المكافحة الشريفة العفيفة والمناضلة من أجل تربية أبنائها وبناتها وتعليمهم بالعمل الحلال والكسب الشريف؛ تكون عوناً وسنداً للزوج والأب؛ فهي نعم الأم الصالحة والزوجة الصابرة.

وكلمات الدكتور زاهر موسى هي رسالة للمتنطعين والجهلاء المتنكرين لأصلهم وماضيهم.

وأنا أشهد على صدق كل ما ذكره في نعيه من دور للوالدة الراحلة ووالده المرحوم؛ فهم إخواننا وأهلنا وجيراننا بأمبدة الحارة (16) سوق أمدفسو؛ وهم مثال للشرف والأمانة والصدق والاحترام؛ وطيلة عُشرتنا لهم؛ لم نجد منهم إلا الخير والحب والاحترام.

والى كلماته التي تفيض تواضعاً وأصالة وفخراً :

“يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي” صدق الله العظيم

 

توفيت إلى رحمة مولاها في يوم الجمعة الماضي الموافق 2021.5.28 أمي ونور حياتي الحاجة فطومة (أم التيمان). اللهم أرحمها وأغفر لها هي ووالدي الطود الشامخ (شيال التقيلة) المرحوم الحاج موسى (أبو التيمان) بقدر ما قدما من تضحيات وإيثار يعجز المرء عن التعبير عنهما بالكلمات. أمي وأبي نشهد أنا وإخوتي، بل يشهد الكثيرون أنكما قدّمتما حياتكما رخيصة وبكل حب وتجرد ثمناً لتربية ورعاية وتعليم أبنائكما وبناتكما (حتى أوصلتموهم إلى بر الأمان) في أحلك ما يمكن أن يتصوّره المرء من ظروف قاسية وبائسة في تلك البقعة من الأرض التي لا يمكن وصفها بمصطلح وطن إلا مجازاً.

نشهد يا أبي أنك لم تترك باباً للرزق داخل أو خارج السودان إلا وسعيت إليه سعياً. فتارة نراك تعمل خبازاً، وتارة أخرى تعمل سمساراً أو تاجراً صغيراً. وعندما يشتد ضيق الحال بالبلاد وتوصد الأبواب، نراك قد شددت الرحال مهاجراً إلى ليبيا، مصر، العراق أو المملكة العربية السعودية. وفي أحوال أخرى، نراك غير آبهٍ بخوض بعض الأعمال الخطرة التي دفعت ثمنها مطاردات واعتقالات في سجون نظام الإنقاذ الفاشي.

وبذات الصمود يا أمي كنا نراك تقدمين كل ما في وسعك، بل وفوق ما في وسعك من مساندة لأبي داخل وخارج المنزل. فنراك مرة تبيعين الفول والتسالي والآيسكريم، ومرات أخرى تقومين ببيع ساندوتشات البيض والطعمية.

وبعيداً عن التضحيات المادية والجسدية التي كانت أمراً طبيعياً في حياة أمي وأبي، فإن أكثر ما كان يُميِّزهما هو بشاشتهما وطيب محياهما وحبهما غير المشروط لأبنائهما، بل لكل الذين من حولهما (أصدقاء، جيران وأقارب). ولم أرهما البتّة في موقف يجرح أحداً من الناس حتى ولو بكلمة. أمي وأبي أنتما تمثلان جيلاً من الأمهات والآباء السودانيين العظام الذين عاشوا عصر السودان الذهبي في فترات الستينيات، السبعينات والثمانينات، وانقلب عليهم الحال ليُواجهوا شتى صنوف الظلم واضطهاد الدولة منذ بدايات الإنقاذ وإلى يومنا هذا.. إذ لم تجدوا من الدولة أبسط أنواع الرعاية الصحية والاهتمام، ولا جُزءاً يسيراً من الاحترام والتقدير الذي تستحقونه.. أيضاً ما يُميِّز ذلك الجيل هو أنّهم كانوا أمثلة حيّة يقتدي بها في التدين والأخلاق والقيم السمحة، والتي لا يحتاج المرء معها إلى أي شكلٍ من أشكال التدين القائم على الوعظ والإرشاد، إذ أن كل من تربى في كنف ذلك الجيل يصبح بلا شك عضواً صالحاً في المجتمع..

إن وجعك يا أمي حارٌ ثخينٌ، لا سيما وأنك قد رحلتِ عنا وأنا بعيدٌ في بلاد الغربة..

تبكيكِ الطيبة، والمحبة والبشاشة والطبع النبيل..

يبكيكِ الكرم والنشاط والهِمّة..

تبكيكِ الأصالة والعِفّة..

تبكيكِ الرزانة والشموخ والعزة..

أماه هذا غيضٌ من فيض من مآثرك التي لا تسعها المجلدات.. فقصتكِ تصلح لأن تُكتب وتُنشر في كتاب حتى يتم تدريسها للأجيال..

اللهم أغفر لأمي (وأبي) مغفرة بحجم عطائك وكرمك وجودك الذي لا ينضب، وتغمدها (وأبي) برحمتك الواسعة التي وسعت كل شيء خلقته.

جمعنا الله بكما أنتِ وأبي في جنات الخلد.. آمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى