بهاء الدين قمر الدين يكتب : ضائقة معيشية.. أم جائحة (كورونا) أخلاقية؟

مؤخراً بت على قناعة راسخة؛ ويقين تام؛ بأنّ ما نعانيه اليوم من ضائقة معيشية وعيشة ضنكى؛ هي من صنع أيدينا ومن نسجها وحياكتها وتطريزها؛ ومن (عمايلنا) وكسبنا في المقام الأول؛ قبل أن تكون تلك المعاناة؛ مولوداً شرعياً للأزمة الاقتصادية التي تمر بها بلادنا إبان السنوات الأخيرة؛ قبيل وبعد ثورة ديسمبر الظافرة!

نحن اليوم أيها السادة؛ مصابون بجائحة (كورونا) أخلاقية وأزمة ضمير وقيم؛ وسرطان مفاهيمي و(إيدز) وجداني خطير؛ سرى الداء فينا واستشرى داخل نفوسنا وافئدتنا وضرب بقوة منظومتنا الأخلاقية ومثلنا وقيمنا السمحة؛ التي كنا نُباهي ونفاخر بها شعوب العالم أجمع؛ وكانت تمثل لنا جنة ووقاية وحماية وسنداً؛ نتعاون بها عند الضوائق والأزمات؛ ونتكافل عبرها مع بعضنا البعض ونسند الضعيف ونملأ بطن الجائع ونغيث الملهوف!

للأسف انهارت منظومتنا الأخلاقية مؤخراً؛ فأصابتنا الضائقة المعيشية التي نُعانيها ونعيشها ونقاسيها اليوم!

إن الأزمة التي غاصت بلادنا في لجّتها ووحلها الآن؛ هي ليست من صنع الحكومة وحدها؛ نحن الشعب ونحن المواطنون؛ لنا فيها السهم الأكبر والجعل الأوفر !

ذهبت حكومة الإنقاذ وأسقطناها؛ بعد أن حملناها كل أسباب أزماتنا الاقتصادية وانعدام الرغيف والبنزين؛ واستبدلناها بحكومة الثورة المجيدة؛ ولكن لم تتغيّر الأوضاع؛ بل استفحلت الأزمة؛ وازدادت سوءاً واستعر أوارها؛ واشتدّت نيرانها؛ حتى بلغت القلوب الحناجر وشارفنا على الهلاك وقلنا (الرووووب)!

إنّ أزمتنا الحقيقيّة والأصيلة؛ هي غياب الضمير والوجدان الجماعي الواحد المُوحّد؛ وموت الإحساس في دواخلنا بمُعاناة الآخرين؛ إنّ أزمتنا هي مننا وفينا؛ ونحن الأزمة؛ وهاكم الأدلة على ذلك!

نحن نشكو من أزمة الخُبز؛ وتمتد وتتمدّد الصفوف أمام المخابز ليل نهار؛ لكن نحن المواطنون نشتري الخبز المدعوم من الأفران؛ ومن ثم نبيعه (للجيران) وكل من لا يجد خُبزاً مدعوماً؛ نبيعه للآخرين بالسوق الأسود!

انظر عزيزي القارئ للأسواق والدكاكين والمواقع والمحلات؛ التجارية من حولك؛ تجدها مُتكدِّسة بالخبز المدعوم والمفروش في الأرض وفوق (الترابيز) وهو  بالسوق الأسود!

إنّ الذي يبيع الخبز المدعوم في السوق السوداء هو المواطن؛ هو إنت وأنا وهي وهم وهن ونحن جميعا المواطنون السودانيون و(أولاد البلد)؛ وليس الحكومة وليس (حمدوك أو مناوي أو البرهان)!

نحن الشعب أس الأزمة وأساسها وسببها الأول؛ وليست الحكومة والجهات المسؤولة!

ونشكو أيضاً نحن من أزمة الوقود وانعدام الجاز والبنزين والغاز؛ ولكن انظر عزيزي القارئ إلى الشوارع أمام عينيك؛ تجد (قارورات) (وجوالين وبراميل) الوقود؛ مفروشة على جنبات الطريق؛ وبرضو بالسوق الأسود!

إنّ الذي يبيع الوقود هو المواطن محمد أحمد السوداني؛ وليس وزير الطاقة والتعدين!

وتظل جيوش المُواطنين تقف ساعات طوالا في مواقف المواصلات انتظاراً لحافلة أو عربة أو مركبة تقلهم لوجهاتهم؛ وعلى بُعد خطوات منهم؛ تمر العربات الخاصة والحكومية مسرعة وخالية إلا من سائقها؛ بيد أنه لا يكترث لهم ولا يحملهم معه؛ ولكنه (يجود) عليهم (بغبار وعجاج) إطارات عربته؛ ودخان العادم؛ ويتركهم (يقحقحون) ويسخطونه ويلعنونه!

ألم أقل لكم إن كل أزماتنا الاقتصادية والمعيشيّة هي من نسج أيدينا نحن المواطنون؛ وليس حكومة الثورة الحالية؛ أو حكومة البشير المبادة؛ أو حتى اية حكومة  قادمة نختارها نحن الشعب وننتخبها وننصبها مسؤولة عن معاشنا ومأكلنا ومشربنا وتعليمنا وصحتنا وعلاجنا !

إن أزماتنا لم يصنعها البشير ولم يخلقها حمدوك.. أنا وأنت وكلنا شركاء فيها شئنا أم أبينا!

نعم عزيزي القارئ هذه هي الحقيقة المُرّة والقاسية والصادمة: نُقدِّمها لك (عارية) بلا مساحيق وبلا رتوش وبلا أكاذيب أو مُجاملة أو نفاق اجتماعي وخداع لأنفسنا!

ولن يستقيم الحال ولن تحل أزمة الوقود والخُبز والضائقة المعيشية وكل أزماتنا؛ التي نعيشها اليوم؛ ما لم نُحاسب أنفسنا؛ ونترك الجشع والطمع ونترفّع عن حُب النفس؛ ونغسل قلوبنا من الأمراض الأخلاقية والأدواء والعلل النفسية!

إنّ السوق الأسود صبغ حياتنا بسواد أخلاقي وجعل حياتنا جحيماً لا يُطاق!

ولن تحل أزماتنا الرقابة أو مباحث التموين أو لجان المقاومة؛ نحن المواطنون السودانيون مَن نحلها!

ستحل الضائقة المعيشية يوم أن نشتري الخُبز المدعوم من الفرن ولا نبيعه في السوق الأسود للآخرين؛

ستنتهي أزمة المواصلات يوم أن يحمل صاحب كل عربة خاصة في مركبته، مُواطناً واحداً فقط ويُعلِّي من قيمة وفضيلة (فضل الظهر).

ستحل كل أزماتنا الاقتصادية والمعيشية؛ يوم نقتل في نفوسنا (غول) الجشع وشيطان الطَمع وحُب النفس والأنانية؛ ونحس بوجع الآخرين ومُعاناتهم وآلامهم؛ ونمد لهم يد العون والمحبة البيضاء الصادقة!

لذلك أنا أقول وأزعم إنه لا توجد في بلادنا أزمة اقتصادية أو ضائقة معيشية؛ فالدقيق المدعوم متوفر؛ والوقود موجود (على قفا من يشيل)؛ بيد أنها أزمة ضمير وجائحة أخلاقية مجتمعية أصابتنا جميعا بلا استثناء؛ وهي لعمري كارثة كبرى وداء عضال مقيم في نفوسنا و(متوهط) في قلوبنا… ولا حول ولا قوة إلا بالله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى