د . علي بابكر سيد أحمد يكتب.. صناعة الدواء في السودان: المأزق والمَخرج

ليس بالضرورة عند القيام بمشروع نهضوي يَعتمد على الصَّناعة أن يَستحضر نموذج الثورة الصناعية بأوروبا، وليس بالضرورة أن يَسبق النّهضة الصناعية ثورة ثقافية، ولكن أصبح مَعلوماً أن الوعي بأهمية زيادة الإنتاج وتطوير أدواته هُما أمران ضروريان لإحداث تلك النهضة.

تسعى الحكومات لتبني خيار الصناعة الوطنية لأسبابٍ عدة، منها أنها تريد مراقبة جودة المنتجات التي يستهلكها المواطن، كما أنها تسعى لزيادة فرص العمل واستيعاب البطالة للتقليل من الآثار الاجتماعية الناتجة عن ذلك. كما أن الدول والحكومات تسعى للاكتفاء الذاتي من المُنتجات وتحقيق السيادة الوطنية وتوفير النقد الأجنبي عبر تصدير هذه المنتجات للأسواق الخارجية.

صناعة الدواء في السودان بدأت منذ ستينيات القرن الماضي دون أن يعلم أحدٌ لماذا قامت آنذاك، إذ لم يكن متوفراً لها القواعد العلمية والتكنولوجية للقيام بمثل هذه الصناعة، ولذلك توقفت مبكراً ولم تقم بصورة فاعلة إلا عندما زادت الحاجة للأدوية في ثمانينات القرن الماضي وبعدما توفرت لها القواعد العملية لنجاحها، ثم توسعت مرة أخرى فى التسعينيات وبدايات الألفية الثانية.

لم تقدم الحكومات المتعاقبة، دعمها لصناعة الدواء إلا في العام 2013 عندما تمت صياغة سياسة توطين الصناعة الدوائية، ثم في العام 2015 عندما تم توفير مبلغ 8 ملايين دولار بالسعر الرسمي من البنك المركزي، وقد ساهم هذا المبلغ الضئيل في تغيير خارطة الإنتاج للمصانع الوطنية، ثم تبعت ذلك جولات وزيارات ميدانية للمصانع من قِبل مسؤولي الحكومة السابقة، ثم توج الدعم الحكومي بالقرار الرئاسي بمنع استيراد 145 صنفا دوائيا تنتجها الصناعة الوطنية، وقد غطت المنتجات الوطنية النقص الحاد في الإمداد الدوائي بالبلاد خاصة بعد تدهور قيمة الجنيه السوداني وارتفاع مديونيات الدواء المستورد.

يعاني الاقتصاد العالمي ركوداً كبيراً قبل وبعد جائحة كورونا، وتسبب هذا الركود في نقص إنتاج المواد الخام وارتفاع تكلفتها وتكلفة ترحيلها وأصبح من العسير الحصول على مواد خام في الزمن المطلوب وفق خطة الإنتاج التي تقترحها المصانع، حيث أن المصانع الوطنية تستورد غالب المواد الخام من الهند ثم الصين، مع العلم أن الهند نفسها تستورد بعض موادها الأولية لصناعة المواد الخام من الصين، وفي ظل هذا الركود وبروز الصراع الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة وتوابعها، فإن كميات المواد الأولية الواردة للهند سيتباطأ توريدها وعليه فإن كميات المواد الخام المنتجة بالهند لن تفي باحتياجات مصانع الأدوية الهندية، وبالتالي نقص كميات التصدير ممّا يعوق مصانع الأدوية السودانية من الإنتاج في الزمان والكمية المطلوبة هذا بخلاف المعوقات الأخرى الناتجة من ارتفاع معدلات التضخم وزيادة تكلفة التشغيل الناجمة عن ارتفاع أسعار المحروقات والمُطالبة بزيادة المرتبات وزيادة تكلفة الطباعة والتغليف وغيرها من الزيادات التي تجعل من تكلفة المكون المحلي للمنتج بالجنيه السوداني أعلى من تكلفة المكون الأجنبي، مما يهدد أن تصبح الأدوية المُصنّعة محلياً أعلى سعراً من المستوردة.

معلومٌ أن الولايات المتحدة والدول الغربية تعتمد على الأدوية الجنيسة بنسبة عالية لتغطية احتياجاتها من الدواء والتي يتم استيرادها من دول مثل الهند والصين، ومعلوم أيضاً أن الميزان التجاري الدوائي لهذه الدول الغربية يُرجِّح كفته لصالح صادراتها من الأدوية أكثر من وارداتها، ووفقاً لذلك وبتأثير من جائحة كورونا ولنقص الإمداد، فإن تسابقاً بين الصين والهند على توريد وإمداد الأدوية لأوروبا والولايات المتحدة، وسيكون نصيب الصين هو الأكبر نظراً للإنتاج الدوائي المتزايد فيها والذي يتوقّع أن يصل إلى 171 مليار دولار سنوياً، وبمعنى آخر أن الصين والهند تعملان على جلب قيمة إضافية بإنتاج الأدوية بدلاً من بيعها كمواد خامٍ.

وبتلك المعلومات، فإن إمكانية توافر أدوية جاهزة للاستعمال بأسعار معقولة وفي زمان محددين أكبر من إمكانية توافر مواد خام، وتبعاً لذلك ستصبح الأدوية المستوردة أقل من تلك المُصنّعة محلياً، مما يزيد الضغط على صانعي الأدوية بالسودان، إذ عليهم اتخاذ خطوات إيجابية تحُول دون رفع الدعم السياسي ويمكن اقتراح بعض الخطوات التالية:

– طرح رؤية استراتيجية لتطوير الصناعة الوطنية.

– العمل بروح جماعية لطرح رؤية وطنية تدعم به الصناعة الوطنية الاقتصاد الوطني وتساهم به في إيجاد حلول لمشكلات الوفرة الدوائية المتكررة.

– رفع تصور علمي مدروس للحكومة يُعلن عن تأسيس محفظة تمويل يُساهم فيها الشركاء الذين تهمّهم القضايا الصحية الاقتصادية والاجتماعية التي سوف تحل عبر دعم وتطوير الصناعة الوطنية.

– تبني آلية فعّالة تُعنى بتصدير بعض الأدوية التي تنتجها مصانع الأدوية بكميات كبيرة لجلب عملات أجنبية (يمكن تعويضها باستيرادها بأسعار أقل).

– تبني فكرة خلق قاعدة بحثية لهذه الصناعة (بمشاركة الجامعات) تعمل على تطوير التّركيبات الدوائية وتحليلها وعمل مكاتب استشارية ومراكز للتدريب لزيادة الفعالية لهذه الصناعة.

– التّنسيق المُستمر عبر آليات عملية مع المؤسسات الصحية والمالية والسياسية.

– طرح تصوُّر لمراجعة السياسات والقوانين والإجراءات التي صدرت أو ستصدر وتعوق تنفيذ الرؤية الاستراتيجية.

– وَضع خُطة لتأسيس وتطوير الصناعات المُصاحبة لإنتاج الأدوية مثل المواد الخام الأولية والثانوية ومواد التعبئة والتغليف.

– السعي لعمل مخزون استراتيجي من المواد الخام الأولية والثانوية بمُشاركة القطاعين العام والخاص.

– تبني رؤية عملية مُتقدِّمة بتدريب خريجي المدارس الصناعية والمعاهد التقنية على أُسس وقواعد التصنيع الدوائي وتشغيل وصيانة الأجهزة والماكينات المُستخدمة في عملية التصنيع.

إنّ أهم الحلول الاستراتيجية للمشكلات الصحية هو تبني مشروعين وطنيين، هما التأمين الصحي الشامل لكل المواطنين وتطوير الصناعة الدوائية، ولكن هذين المشروعين يواجهان بمشكلة تشظي المؤسسات وعدم التنسيق بينها وغياب خطط الشراكة بين القطاعين العام والخاص ويمكن القول إنه دون التنسيق والشراكة التي تقوم على منهج علمي وعملي، فإن المُشكلات التي تُعاني منها البلاد ستظل قائمة وكلما تطاول أمد حلها فإن هذه المشكلات ستصبح أكثر تعقيداً.

إنّ مأزق الصناعة الدوائية والتي ظلّت تُعلن ومنذ سنوات أنها قادرة على تحقيق الوفرة الدوائية والاكتفاء الذاتي من الأدوية بأسعار وجودة معقولين، ولكن نظراً للظروف الاقتصادية المُعقّدة (عالمياً وداخلياً)، فإن صُعُوبات جمّة سوف تعترض مسيرة هذه الصناعة، وبالمقابل فإن فرصاً أوسع تتوفّر للأدوية المستوردة مثل انتهاء أجل براءة الاختراع للمئات من الأدوية والتي يمكن أن تدخل سوق الدواء فتحدث تغييراً ملحوظاً في الأشكال الدوائية والخيارات العلاجية وستحدث حراكاً – بعد جُمُودٍ طويلٍ – سيتفاعل معه القطاع الصحي عموماً بفاعلية وإيجابية تفقد المُنتج الوطني بريقه وتأثيره.

إنّ المَخرج من هذا المأزق، هو أن يطلق مُصنِّعو الأدوية بالسودان العديد من المبادرات بدلاً من انتظار الدعم والتأييد الرسمي وغير الرسمي، وأهم هذه المبادرات هو تبني رؤية استراتيجية للشراكة بين القطاعين العام والخاص في قيام وتطوير مشروع التأمين الصحي الشامل وتلبية احتياجاته المُختلفة وتوفير الأدوية بالأشكال والجُرعات الدوائية التي يتطلّبها المشروع بما يُمكِّنه من احتواء التكاليف وتوفير الدواء للمُحتاجين كافة.

إنّ الديناميكية والفاعلية في مجال الصناعة الدوائية مطلوبتان لإحداث نقلة نوعية لهذا القطاع، خاصة أنّ رأس المال المدفوع فيها كبير ويجب أن نحذر أن تتبدّد كما تبدّدت من قبل أموال صناعة النسيج وتشرّدت الخبرات، وعلى الجميع الانتباه للمتغيرات الاقتصادية المتسارعة، وإنه من الضروري كسب الوقت وعدم التباطؤ وإيجاد حلول فاعلة للمشكلات قبل تفاقمها حتى الوصول لتحقيق الأهداف والارتقاء بالبلاد.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى