إبراهيم أحمد الحسن يكتب.. إلى (الجزمة).. مع التحية (1)

وأنت تتلفّت عند أبواب المساجد لتجمع بين رأسي جزمتك في الحلال، قد يسألك رفيقك: “مركُوبي ما وقع في عينك”؟.

قبل الإجابة، وغض النظر عن كيف تحتمل حدقة عينك مركوباً من مقاس (45)، عليك أولاً أن تعرف طراز المركوب المطلوب العُثُور عليه، من بين بعض أسماء أحذية السودانيين على مرّ العصور:

الجزمة، كمُوش، زيزي، الشحّاطة، الشدّة، الشلُّوت، القمر بوبا، البـرطُوش، النِعلات، الكـَرْكَـب، الكبَك، الكدّارة، السفـنـجة، تـَمُوت تـخـلّي، حاجّة كافرة، زنّوبة، أبو شنق، باتا. المركـوب: كلودو، أبو أضينة، النمر، الفاشري، الجنينة، الجزيرة أبا، التمساح، التيس، الورل، الأصلة، الثعبان، الكديس، الأرنب. الصنـدل، البوت، الحدُوقة، القبقاب – وهو ناشف جداً ماتت تحت طرقاته شجرة الدر. الشقيانة، شبشب لاركو ودكتور شول، الـ”سيُورو معقمة بالديتول” كما جاء في المنولوج الشهير!

للأحذية، وإن شئت (الجِزم)، تاريخٌ طويلٌ من البساطة والتعقيد، ومن الراحة والضيق. وخصّص الأدب العربي نصيباً وافراً للأحذية من الإبداع، ونال لصوص (الجِزم) حظّهم من الضرب بشِعر الرثاء ممّن فقد (زوجاً) عزيزاً أو (فردة) عند أبواب المساجد أو أماكن الزحمة التي لا ترحم الأحذية.

قال محجوب شريف: “صحيت بالمؤذّن وحالتك تحزّن/ مَرَقت وسرقت الوبال/ حليلك بتسرق سفنجة وملاية/ وغيرك بيسرق خروف السماية”.

رفع بعضهم أحذيتهم إلى السماء، وحطّ بها آخرون إلى ما دون الأقدام الحافية. ورثاها من كانت عزيزة لديه، وشتمها من رآها وضيعة. ففي مجال القصة، كتب السعودي عبد الله الناصر: (سيرة نعل): والسوري باسم عبده: (فردة حذاء). والشاعر الياس فرحات: (الحذاء الأحمر) والفرنسي بول كلوديك: (حذاء الحرير): وحطّ بها نزار قباني، وهو يقول: “‏إذا أصبح المفكر بُوقاً/ يستوي الفكر عندها والحذاء”.

وفي رثاء الأحذية، فقد الكاتب المصري أنيس منصور جزمته في المسجد الأقصى، ولم يفلح في العثور عليها وسط مئات الأحذية والشباشب التي تناثرت في كل مكان، فسخر منه الشيخ الباقوري، بقوله: “يسير كظيم الغيظ مُحتشم الخُطى/ بغير حذاءٍ يزرع الأرض ماشيا.”

وقريباً من (نشلة) أنيس منصور، فقد المرشح الأسبق لمنصب الأمين للجامعة العربية، الدكتور مصطفى الفقيه، حذاءه في مسجد، فكتب شاعر على لسانه:  “سرقوك يا أرقى حذاء/ لأعيش بعدك في شقاء/ سأظل بعدك حافياً/ فأنا الوفي أبو الوفاء/ أو قد أسير بـ(شبشب)/ لا أقتني أبداً حذاء.”

ولأنها جزمة (الفقيه)، وليس رجلاً من غمار الناس، شارك آخر في رثاء الجزمة، قال: “حذاؤك في الورى نِعم الحذاء/ حذاؤك في الربيع يفوح عطراً/ شذاه معبّق منه الفضاء/ مُصاب الناس في نعليك داجٍ/ عيونِهمُ يرى فيها البكاء.”

ومن كتب التراث العربي، وجدت بخيلاً يرثي جزمته العتيقة: “أراك فتحت ثغراً يا حذائي/ وأخرجت اللّسان بلا حياء/ إذا ما سرتُ ألقى منك نوحاً/ كثكلى لا تكفّ عن البكاء/ وأعلنت التمرد بعد عُمرٍ/ فقدت اللّون فيه من الشقاء/ فقدتك يا فداك أبي وأمي/ وزوجي والعيال ومن ورائي.”

وأطرف ما مر على في الوسائط كتاب الأطفال (ملح في حذائه) لمؤلفته ديلوريس جوردون Deloris Jordan   والدة لاعب كرة السلة الأشهر مايكل جوردون والذي يحكي عن قصة حلم تَحَقّق، قصة لا يستطيع أن يُوفِّيها حقّها إلا فرد من الأسرة فكانت أمه ديلوريس هي صاحبة هذا الحق الحصري المستحق، ويعلم الجميع أن الحذاء ماركة جوردون هو الأغلى سعراً والأقيم والأشهر في العلامات التجارية للأحذية الرياضية.

في واحدة من أسفاري بأركان الدنيا – وقال عنها أحد الفلاسفة: “ما فائدة الدنيا الواسعة لو كان حذاؤك ضيقاً – صادفت في دولة آسيوية، بائعة تصرّ على دعوتي لمتجرها الذي تتراص على واجهته العشرات من الأحذية، وقادتني إلى ماكينة غريبة الهيئة.

قالت البائعة، إن تلك الماكينة حين يقف عليها الزبون، تحدّد له بدقة شديدة، مقاس الحذاء الذي يُناسبه وترسم له درجات الانحراف والتبايُن بين القدمين وأوزان كتلة الجسم و(المشية ذاتا وقدلتو). شرحت الآنسة وأسرفت في الشرح، وكُنت وقتها قد فتحت بوّابات ذكرياتي لتتدفّق منها الأحذية. وسرح خاطري بعيداً مع (تموت تخليهو).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى