صديق البادي يكتب.. اتفاقية أديس أبابا والتجربة المثالية في استيعاب المقاتلين

شهد السودان حركات تمرد عديدة بدأت بتمرد في مدينة رمبيك بجنوب السودان في شهر أغسطس عام 1955م.  وفي عام 1963م قامت حركة تمرد معروفة باسم “أنانيا ون” بتحريض ودعم مالي ولوجستي من دول ومنظمات غربية وكنسية كانت غاضبة لأن نظام الفريق إبراهيم عبود أخرج القساوسة الأجانب وطردهم من السودان لأنهم كانوا يتدخلون في شؤونه الداخلية والسيادية وانصرفوا عن مهامهم المحددة، وأضحوا دعاة فتنة بين الشمال والجنوب من جهة، ودعاة فتنة بين القبائل الجنوبية النيلية والقبائل الجنوبية الإستوائية من جهة أخرى.  وأصر نظام عبود أن يقوم على أمر الكنائس بالجنوب قساوسة جنوبيون كفل لهم الحرية الكاملة وهي حق بالنسبة لهم وليست منحة منه يمتن بها عليهم.  وبعد ثورة أكتوبر في عام 1964م وسقوط نظام الحكم العسكري النوفمبري عقد في عهد حكومة أكتوبر الانتقالية مؤتمر المائدة المستديرة الذي عهدت رئاسة جلساته للبروفيسور النذير دفع الله مدير جامعة الخرطوم وقتئذٍ، وعهدت السكرتارية للأستاذ محمد عمر بشير.  وأعلن السيد أقري جادين بكل صراحة ووضوح أنهم يطالبون بمنحهم الحكم الذاتي في إطار الدولة الواحدة والاعتراف بكينونتهم المستقلة، وإلا فإنهم يطالبون بالانفصال وإقامة دولتهم المستقلة القائمة بذاتها(وقد تحقق ما طالب به أقري جادين بعد أربعين عاماً، وتم فصل الجنوب).  وشارك الإداري المثقف السيد وليم دينق بورقة ودراسة قدمها في مؤتمر المائدة المستديرة طالب فيها بمنح الجنوب حكماً ذاتياً في إطار الدولة الواحدة واستقر في السودان ولم يخرج لمواصلة نشاطه السياسي المعارض من الخارج.  وتحالف وليم دينق رئيس حزب سانو مع حزب الأمة جناح الصادق وجبهة الميثاق الإسلامي بقيادة دكتور حسن الترابي وكونوا مؤتمر القوى الجديدة.  واغتيل السيد وليم دينق في عام 1968م عندما كان يقوم بجولة انتخابية في جنوب القطر.  وفي بياناته الأولي أعلن نظام مايو منح الجنوبيين الحكم الذاتي وبدأ في إجراء مفاوضات مع قيادات التمرد، وعقدت مفاوضات بين الطرفين في أديس أبابا، وكان المفاوضون في وفد الحكومة من أصحاب الخبرات والقدرات العالية والتأهيل الرفيع، ومنهم دكتور منصور خالد وزير الخارجية ودكتور جعفر محمد علي بخيت وزير الحكومات المحلية واللواء محمد الباقر أحمد وزير الداخلية الذي عين بعد ذلك في موقع النائب الأول لرئيس الجمهورية بعد إعفاء السيد بابكر عوض الله، وترأس وفد الحكومة الوزير الأستاذ أبيل ألير المحامي، وترأس وفد حركة “أنانيا ون” في المفاوضات السيد جوزيف لاقو، وكان ضابطاً بالقوات المسلحة تخرج في الكلية الحربية برتبة ملازم في عام 1962م  وخرج متمرداً في عام 1963م  وكان من أبناء دفعته في الكلية الحربية الرائد مامون عوض أبوزيد والرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر والرائد أبو القاسم محمد إبراهيم وثلاثتهم كانوا أعضاء بمجلس الثورة قبل حله، وكانوا أصدقاء وزملاء لجوزيف قرنق، ومهد هذا لفتح قنوات الحوار والتفاوض معه.  وضم وفد “أنانيا ون” عدداً من العسكريين والمدنيين وبعضهم كان يحمل شهادة الدكتوراه مثل دكتور فرانسيس وول وول، واتفق الطرفان وتوصلا لاتفاقية عرفت باسم اتفاقية أديس أبابا، وأعلنت وأذيعت على الملأ في اليوم الثالث من شهر مارس عام 1972م.  وعاد رئيس وأعضاء وفد الحكومة للخرطوم بكل هدوء وبلا (زيطة ولا زمبريطة)  وقد أدوا واجباً وطنياً على الوجه الأمثل وعاد بعدهم السيد جوزيف لاقو الذي منح رتبة لواء وعاد كل من كانوا معه في الخارج من عسكريين ومدنيين بذات الهدوء (بلازيطة ولا زمبريطة)  ودون أن يصف هؤلاء أو أولئك أنفسهم بأنهم (أبطال السلام!!)  ووجدت اتفاقية أديس أبابا تأييداً وارتياحاً عاماً في الداخل والخارج، وقدمت الدول الغربية والمنظمات الكنسية وغيرها دعماً  مالياً ونوعياً ضخماً لجنوب القطر الذي شهد استقراراً وبسطاً للأمن ورفعاًلألوية السلام لمدة عقد كامل من الزمان ونيف. وعلى إثر الخلاف الذي نشب بين الجنوبيين حول تقسيم الجنوب لثلاثة أقاليم أسوة بما حدث في أقاليم السودان الأخرى أو الإبقاء عليه إقليماً واحداً كما ورد في اتفاقية أديس أبابا، وأدت الخلافات بينهم وتقسيم الإقليم لثلاثة أقاليم لقيام حركة تمرد جديدة في شهر سبتمبر عام 1983م ولا يتسع المجال في الخوض في إيراد المعلومات بتفاصيلها، وأترك ذلك لحلقة أخرى.

والذي يهمنا في هذه العجالة هو أخذ الدروس والعبر من الكيفية التي تم بها استيعاب المقاتلين الذين كانوا منخرطين في “أنيانيا ون” وتدريبهم وتأهيلهم بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا واستيعابهم في القوات المسلحة في رتب تناسب قدراتهم ومؤهلاتهم دون منح الرتب بطريقة عشوائية، وربما تكون هناك حالات شاذة محدودة العدد في بعض العهود تمنح فيها رتب أعلى تقديراً لضرورة تقتضيها موازنات في ظروف استثنائية.

لقد كان عدد الذين تم استيعابهم بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا معقولاً ولم يكن كبيراً والظروف كانت أفضل والدعم الخارجي كان كبيراً سعياً من المانحين لنجاح تنفيذ الاتفاقية.  أما الوضع الآن فقد اختلف وأن أعداد المقاتلين كبيرة وبعض الحركات أخذت في تجنيد الكثيرين تجنيداً عشوائياً ومنحهم رتباً (لتكبير كومهم)، وقد أقر بهذه الحقيقة المؤسفة دكتور الهادي إدريس عضو مجلس السيادة ورئيس الجبهة الثورية.  وإن من حق المقاتلين في الحركات الدارفورية أن يعيشوا مكرمين معززين في وطنهم ولهم حق التنقل في أرجائه والإقامة والعيش في أي قرية أو مدينة في أي ولاية من ولايات السودان، وهذا حق دستوري مكفول لهم، ولكن على الجميع بلا فرز من حملة السلاح إذا كانوا من الوسط أو الشمال أو الشرق أو الغرب أن يضعوا السلاح ولا يرتدوا الزي العسكري ويتجولون به وسط المدنيين إذا لم يكونوا جزءاً من الأجهزة الحكومية الرسمية والقوات النظامية،  والترتيبات الأمنية تحتاج لاستعدادات وميزانيات وجهد كبير، وكما قال الشيخ العبيد ود بدر (موية الزير دايرة ليها تدبير)، وعملية الاستيعاب تحتاج لمعاينات وتدريب وتأهيل ومنح الرتب وفقاً للقدرات والمؤهلات وما يتبع ذلك من مرتبات واستحقاقات مالية، ومن لا يتم استيعابهم لعدم استيفائهم الشروط المطلوبة يمكن إيجاد فرص عيش كريم لهم في مجالات أخرى، وعلى قيادات الحركات المسلحة ألا يتهربوا من مسؤولياتهم وعليهم يقع عبء التكفل بالصرف على المقاتلين الذين كانوا ينخرطون في حركاتهم وعليهم تقع مسؤولية إعاشتهم والفرد من المقاتلين في ظل الغلاء والظروف الصعبة الراهنة يحتاج في سكنه ومأكله ومشربه وتحركاته ونثرياته لمبلغ كبير شهرياً بل ويومياً ومن حق المقاتلين على قادة هذه الحركات أن يكشفوا لهم حسابات هذه الحركات وإمكانياتها المالية وما تمتلكه من عربات وأسلحة ثقيلة وخفيفة ولهم فيها حق بتسييلها وتقسيم عائداتها عليهم أو تسليمها للحكومة لتشتريها منهم بمقابل مادي يتم الاتفاق عليه.  والحكومة غير ملزمة قبل استيعابهم بالصرف عليهم من الخزينة العامة، وهذه مسؤولية قادة الحركات والمسؤولين عن شؤونها الإدارية والمالية، وفي كل الأحوال فإن التكافل المجتمعي السوداني يمكن أن يساهم في مساعدتهم، ولكن العبء الكبير يقع على عاتق قادة هذه الحركات وعليهم عدم التهرب من المسؤولية واتخاذ وجود هؤلاء المقاتلين في المدن وسيلة ضغط لإظهار القوة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى