عبد الحفيظ مريود يكتب..  ما ليس فينا…

يستوفِي النّاسُ حقوقهم تماماً، إلّا مَنْ أعزّه الله وأغناه. لذلك تجدُ كلَّ شخصٍ يطالب بحقوقه، قبل أنْ يسأل ما هي واجباته، أو يقيس إلى أيّ مدىً كان مؤدّياً لها على أكمل وجه. تطوّر النّظام الحقوقيّ، حول العالم، على مرّ السنوات، ليطالب بها، يشخّصها، يعيّنُ لكلّ أحدٍ، فئةٍ، مجتمعٍ حقوقه على وجه التحديد. لكنّ الأرضيّة الأصليّة الثابتة التي تجعلُ الحقوق متطوّرةً، وترسى لها مؤسّساتٍ، هو فداحة الظّلم، أو استمراء هضم الحقوق على جميع الأصعدة. لم ينتبهْ أحدٌ إلى أنَّ هناك كثرةً كاثرة للظلم، إلى الدّرجة التي تدفعُنا إلى تمييز الحقوق وردّها. والأدهى هو أنَّ المنظومة الحقوقيّة كلّها نتاج لأكثر أهل الأرض ظلماً وانتهاكاً للحقوق، وهم أوروبا وأمريكا.

في فيلم “الموريتانيّ”، وهو فيلم هوليووديّ، قائمٌ على قصّة حقيقيّة، تلعب الرائعة جودي فوستر دور المحاميّة التي دافعتْ عنه. كانتْ تناقش النّظام الأمريكيّ وتحاكم ادّعاءته في مجال حقوق الإنسان والحُريّات والدّيمقراطيّة. إلى أيّ مدىً هو نزيهٌ في تطبيقها بصرامةٍ، وحادب على تقعيدها نظاماً يحكم المجتمع الأمريكيّ قبل أنْ يجرؤ الأمريكان على مطالبة الآخرين أنْ يحذو حذوَهم. ذلك أنّ الواقع الذي تتبّعه الفيلم أنَّ حالة الاشتباه قادت المخابرات الأمريكيّة للقبض على شابّ موريتانيّ وأودعته معتقل غوانتانامو في كوبا، لمدّة 14 عاماً، دون أنْ تقدّمه إلى محاكمة أو تمنحه حقوقه. قيّض الله للموريتانيّ محاميةً شهيرة، نذرتْ نفسها للدّفاع عن المظلومين والمنتهكة حقوقهم.

مناقشة السياق العام لمعتقل غوانتانامو، أو طرق التعذيب فيه أو انتهاكاته الفادحة لحقوق الإنسان، ليس هذا محلّها. ما يعني هذه الكلمة هو التواطؤ الوطنيّ للحكومة الموريتانيّة، وقتها، وقيامها باعتقال وتسليم مواطن له كامل حقوق المواطنة ليتمَّ تعذيبه ومحاكمته وفقاً لقانون لا يعترفُ به حتّى الأمريكيون. ما يحمل الحكومات الوطنيّة للتخلّي عن سيادتها، والمساعدة في انتهاك حقوق مواطنيها، بواسطة دولة أخرى، هو الرّعب الذي أسّسته الولايات المتّحدة في نفوس الضعفاء والكاذبين من الحكّام. هو الابتزاز السياسيّ والقيميّ، انطلاقاً من تعريفٍ ملتبسٍ لمفهوم غامض هو “الإرهاب”. لقد انطلتِ الحيلةُ على الجميع، إذنْ. حتّى أنَّ دولاً تتبنّى منظوماتٍ قيميّة مغايرة، انخرطتْ في تعريف الأمريكان للإرهاب وجرتْ تحاكم مواطنيها على أساسه. يدفعها إلى ذلك مجموعة أكاذيب تشكّلُ “المصلحة الوطنية العليا” أولاها.

انخرطتْ حكومة الإنقاذ – لتخرجَ من ورطتها الأصوليّة – في الأكاذيب الأمريكيّة، و”تعاونتْ” جدّاً في “الحرب على الإرهاب”، فكانتْ كالتي نقضتْ غزلّها من بعد قوّة أنكاثاً. ذلك أنَّ المفهوم الرئيس الذي أرادتْ أنْ تسيّر به المشروع الحضاريّ ينهضُ على “الوقوف مع المستضعفين في وجه المستكبرين”. وبذلك سمحت للجماعات والأفراد المتبنين مواقفَ أصوليّة إسلاميّة، أنْ يدخلوا دار أبي سفيان/السُّودان، ويتّخذوه وطناً ثانيّاً. ثمَّ لمّا بدا أنَّ أمريكا رفعتْ صوتها الغاضب، تماهتِ الإنقاذ وتعاونتْ حدَّ الانبراش في الحرب على الإرهاب، فتمَّ تعديل عنوان “المستضعفين” إلى “الإرهابيين”.

لم تقبض الإنقاذ الثمن من أمريكا، كما تخيّلتْ، وأقنعتنا بأنّ ذلك يصبُّ في خانة “المصلحة الوطنيّة العليا”. ربّما أرادَ الله أنْ يجعلها عبرةً للقادمين من أهل الإسلام السياسيّ. حتّى عندما رأتْ حكومتنا الانتقاليّة الموقّرة، أنَّ مصلحتنا الوطنيّة العليا هي أنْ نطبّع مع إسرائيل، ونترجم الحقوق والواجبات ونعرّف المفاهيم على الطّريقة الأمريكيّة، فعلت.

لكنَّ ذلك كلّه ليس إلّا سراباً. يلمعُ في شبه صحرائنا. لنْ نقبض إلّا كما قبضتِ الإنقاذ، مزيداً من الإذلال واللعب اللا نهائيّ بعقولنا. فما ليس لنا لن يكون لنا. تضعُ أمريكا والغرب الحقوق ولا تُطبِّقها، تضعها للمُغفّلين أمثالنا، سياطاً لتحلب البقر العجاف وهي في أوج ضعفها وحاجتها للعلف.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى