عبد الحفيظ مريود يكتب..  ضفائرُ ابتسام

الكبّاشيُّ صباحاً، ومع شروق الشّمس، كان يشربُ شايَه في العراء، أمامَ منزله، الخالي من الأسوار. المكان كلُّه امتدادٌ لمنزله. الأرضُ جميعها حوشه. أوقفنا السّيّارة لنسأله، ضللنا طريقنا إلى “أمندرابة”. البلدة الأولى بعد خروجكَ من أم درمان، غرباً، في طريقكَ إلى “دار الرّيْح”. لقد قضينا ليلتنا في العراء. كان السّائق مجتهداً في إقناعنا أنَّ برج الهاتف الظّاهر ذاك، يقع في أمندرابة، ولا معنى لسؤالنا. تحتَ ضغطنا وافقَ على التوقّف وسؤال الأعرابيّ.

كان الكبّاشيُ مجتهداً في الوصف بدقّة فائقة. تأخذ يمينك مسافة كذا، ثمَّ تفعل كذا، ثمّ ثمّ، ثمّ ثمّ. حين فرغَ من وصفه أراد السّائق أنْ يثبتَ لنا انَّ البرج يقع في أمندرابة، فسألَ الكبّاشيَّ “يعني نمشي البرج داك عدييييييل”. غضبَ الكبّاشيّ “إتَّ عَانِي البرج، ولّلا عَاني أمندرابة؟ البرج مو عَدَلَك..البرج مو عَدَلَكْ”، وذهب. أقنعنا السّائقَ أنْ يتّبعَ وصفَ الكبّاشيّ بدقّة. ويدعْ البرج وشأنه.

شرعتُ أفكّر في حسم أعرابيّ الكبابيش ذاك. الوقتُ صباحاً. ولا مجالَ للتذاكي عليه. دائماً يفعلُ أهلُ المدنِ أشياء شبيهة بفَعلة السّائق. إذا كنتَ ضالّاً، فلا تجتهد لتُصحِّح لأهل الأرض، الذين يعرفون رأسها ورجليها وصفهم. لو كنتَ تعرفُ لما احتجتَ إلى سؤالٍ. و”السؤالُ ذلٌّ، ولو: أينَ الطّريق”، كما قالَ أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السّلام.

يخيّلُ إليك، مِنْ حيثُ تقف أنَّ أمندرابة حيث ترى برج الهاتف، برج شركة الاتّصالات ذاك. وأنَّ الأعرابيّ لا يستطيعُ أنْ يختصر الوصف الطّويل هذا، ويقول لك ببساطة، أمندرابة حيث يقف البرج. فتتقدّم خطوةً لتسهّلَ له الأمر. من حيثُ لا تشعر تكون قد أهنتَ ذكاءه. أسأتَ إليه وإلى قدراته ومعارفه التي تجعلُ منه دليلَكَ الآن. لأنّك ضائعٌ ولا تعرفُ كيف تصل، ومع ذلك تجعلُ من نفسك أفهمَ منه وأعرف بأرضه منه.

الكبّاشيُّ في خلائه حين تسأله: مَنْ رئيسك؟ سيجيبك – كما فعلوا معنا، وقتها – بأنّه “التّوم حسن التّوم”. عمر البشير رئيس السُّودان، أمّا هو فرئيسه من يعرفه: أين يسكن، إلى أيّ فخذ ينتمي، كيف يردُ الماء، كيف يسقي بهائمه، أين يزرع، من هم أصهاره. حين يسطو أحدٌ على إبله فهو يذهب إلى التّوم حسن التّوم، عليه رحمةُ الله، ويعرف أنَّ التوم حسن التوم سيرجعها له، حتّى ولو دخل بها السّارقون القرعان عمق تشاد. وهو شئ لن يفعله له عمر البشير، البرهان، حمدوك، صدّيق يوسف، حميدتي، السّنهوري، مريم الصّادق أو جعفر الميرغني. كما لن يفعله له عمر الدّقير، أو “ناس المجتمع المدنيّ”. لا لقهر النّساء أو صيحة.

حينَ تقرّر أنتَ – كأفنديّ – أنَّ الكباشيَّ ذاك، يحتاجُ إلى وعيّ جديد، و”مختلف” ليصوّتَ في الانتخابات القادمة، لأنّه الآن غير مؤهّل، فأنتَ تصادر حقّه. تتغوّل على عقله وعالمه لتفرض رؤيتك. تُشيرُ إليه أنَّ أمندرابة التي لا تعرف كيف تصلُ إليها، هي تماماً تحتَ برج شركة الهاتف. لكنّه يعرف أنَّ ما تقوله غير صحيح. لنْ تعرف ما يريده المناصير ما لم تجلس إليهم. ولا ما يريده الجُمجُم، القُمز، الأرتيقا، الهوّارة، السّليم، العطيفات، العريقات، الحُمْرَان، العبابدة، البيقو، المحس في دلقو، البرون، البنقا …إلخ. على شرط الأنثروبولوجيين العظام: لنْ تفهم مجتمعاً ما لم تكنْ، يوماً، جزءاً منه. تعيشه حقّاً.

ثمّة أحاديث تضرب فجاج الأرض، تتزيّا بأزياء الحرص الرّصين على تغيير العمليّة الانتخابية، استناداً إلى “تحديث الوعي”، حتّى ولو اضطرّتِ الانتقالية إلى تأجيل الانتخابات عشرة أعوام. تحتاج المسألة إلى وقفة صلبة لمنع السّائق من التوجّه إلى البرج، فنحنُ نريدُ الوصول إلى أمندرابة، ولا تعنينا تخيُّلات السّائق في شئ، أو “افتكاراته”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى