سراج الدين مصطفى يكتب..  عقد الجلاد.. الثورة على الهرجلة

خمسة وعشرون عاماً يصعب فيها تحقيق النجاح اليومي… ولكنهم إلى الآن يحطمون الأرقام القياسية بالحضور الجماهيري على قلة آلاتهم الموسيقية، إلا أنهم يقدمون فناً أقل ما نقول عنه إنه (السهل الممتنع)… فالحكمة في التجويد وليس في تعدد وكثرة الآلات، أداؤهم متفرد في تقديم ألحان مدوزنة.. وملتزمة بالزمن الموسيقي… أياً كان نوع الأداء (تسجيلاً أو مباشراً) خرجوا عن المألوف في تقديم ألحان مستهلكة كما هو معروف لدى الموسيقى السودانية…

فهم ثاروا ضد الموسيقى السودانية في الخروج عن (الهرجلة المنظمة) بتقديم موسيقى منضبطة وملتزمة بالزمن الموسيقي… تعاملوا مع شعراء يصعب التغني بأشعارهم (محجوب شريف، القدال، هاشم صديق، يحيى فضل الله، حميد، جمال عبد الرحيم) اختيارهم للأشعار… يعكس لنا مضمون الرسالة السامية التي وضعت على كتف المجموعة… رسالة أقل ما يمكن أن نسميها هي رسالة إنسانية.

هذه الجماهيرية الطاغية كان سببها هو ملامسة الهم اليومي واللسان السوداني الذي يطرق القلب بكل عفوية.. وعقد الجلاد حتى على مستوى التأليف اللحني للأغنيات نجدها طرقت شكلاً مغايراً لم يعتمد على زخم الموسيقى والآلات بل كان الاعتماد على الصوت البشري، وهو الأداة الأساسية لتوصيل الفكرة وليس الآلات الموسيقية.. لهذا نجد هذا التنوع الجمالي في الأصوات المؤدية في شكل وتكوين وتركيبة الفرقة..

عقد الجلاد ظلت طيلة السنين الماضية تشكل حضوراً جميلاً وعلى كافة الأصعدة، وهي اليوم تعد واحدة من المنظمات التي تساعد وتبني وتعمر وتسافر لأماكن الحروب وهي لها رحلات عديدة للجنوب تبشر بالسلام، وكذلك في دارفور كانت لها مساهماتها، وقبل أيام حفل لأطفال المايقوما، وحفل لصالح أسرة الفنان الراحل عبد المنعم الخالدي.. كلها تفاصيل تؤكد أننا أمام حالة أكبر من فكرة الغناء، فهي أشبه برسول الإنسانية الذي يتخذ الغناء وسيلته للمخاطبة والوصول..

عقد الجلاد وعبر تاريخها الطويل قدمت العديد من الأغنيات التي كانت أشبه بالمشاريع الفكرية، والتجربة بحد ذاتها ككل مثلت تكثيفاً لحالة شعورية فيها الكثير من البساطة والقدرة على المعايشة والتعايش مع الهم اليومي..

ولكن الملاحظ أن الفرقة في الفترة الأخيرة لم تقدم أي عمل غنائي محسوس الأثر  رغم أن الفرقة أنتجت أغاني جديدة ولكنها ليست في مقام الأغنيات القديمة التي شكلت الملمح الأساسي للفرقة..

في عقد الجلاد روح المجموعة طاغية على روح الذات… والفضل في ذلك يرجع لقادة المجموعة (عثمان النو وشمت محمد نور)، فقد غاب منهم من غاب… وظلت عقد الجلاد بنفس الرائحة الزكية والألق المعهود… مجموعة لم تعرف التأثر بغياب الفرد… مجموعة كتب لها النجاح على مدار خمسة وعشرين عاماً… نجاح عام يفوق العام الذي سبقه… على الرغم من وفرة العوائق والشماعات اللتي تعلل بها مبدعو بلادي…

لم يعرفوا معنى كلمة (شح الإمكانيات)… رؤيتهم تعدت إشكالية الحكم المسبق من قبل المستمع… أمام كل هذه العوائق أعلنوا الثورة بأسلحة الموسيقى الخاصة فكسبوا المعركة وواصلوا في القتال أمام البارجة الأكبر والأعتى وهي (أذن المستمع السوداني في هذا الزمان)، قدمت عقد الجلاد على الأقل تجربة جادة مقتفية آثار كل الفنانين والموسيقيين السودانيين الذين تعاملوا مع هذا الضرب من الممارسة الاجتماعية بجدية، وتاريخنا يحفظ لهؤلاء الفنانين المكان الأسمى منذ الخليل حتى مصطفى سيد احمد وأبو عركي البخيت.

غنائية بتلك المواصفات عصية على التشتت والانقسام والانشطار..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى