محمد فرح وهبي  يكتب :  “عِصيفير المَحنَّة”.. أسئلة الجابري الحرجة لما تكرتني يا أمي وحيد؟..

 

هل تظن ذلك حقاً، أي أبن ضال أنت يا حبيبي، كان صوتك العذب صوتي، إذ وبينما أغادر تركته سراً في سلة النفايات التي عشت فيها زمناً طويلا. وصفك غير العارفين بالجنون، وصدقت قولهم، لكنني كنت فيك يا حبيبي. هل شهد العالم وسامة ماثلة مثل وسامتك؟!.

“أخُت اللوم على نفسي”،.. هي التجربة يا حبيبي، والحياة في أساسها لوم..  “الرادك لامك”، لا تكترث أنت معي الآن، لقد سبقتك لهذا المكان الأخضر، هيأت بروحي لك كل هذا الفضاء الرحب، كان العالم يحتاجك أكثر مني، ونذرتك له مُذ شعرت فرفرتك الأولى فيّ، هو يحتاجك جداً، معذبا وتائهاً ومنغمراً في البؤس، أنت صوت حنانه يا حبيبي.

في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة صعدت إلى الله، وأنت جئتني في لمح البصر، كانت أغنياتك تصلني وكنت أطرب لصوتك أيضاً يذكرني بعالم أرضي زرته لبرهة وغادرته سريعاً. تركتك فيه تتعذب بالشجن والحنين.

هل تظن أننا نغتسل في نهر غير نهر الحنين، حنيننا المتواصل إلى كل شيء. نحن دفق حنين بالأساس.

أنت الآن في وطنك، لقد “عشت غريباُ ومضيت غريباً”، وقمت بدروك على أكمل وجه. لكنه كان وطني أيضاً.. نعم، لكن كحال عارض، لحظة سائلة، والغناء سبيلنا للخلود، لهذا المكان، تذكرة سفر طويل ونهائي.

“حكايتي مع الملام طالت”.. ولكن ما بوسعنا أن نفعل، أعرف هذا، في كل رعشة بصوتك كنت “أُطل، أبصرني أهل حي العرب، وغازلك ناس بانت، والموردة كلها احتضنتك، امتصت رحيقك، انغمرت في نهر خمرها الأزلي، وكنت كلّما سكرت، كلما شعشعت صورتي أمامك، فتبتسم، ابتسامتك تلك كانت لغتي وحوارنا المتعاظم..

كانت عذبة كفاية لتوقظ في إحداهن رغبة جنسية مبهمة تجاهك في عِز ليل الحفل، تنتصب أعضاؤها وتتهيج، ويسيل ماؤها حاراً كحقل نفط، برائحة خُمرة ملوكية، وأزهار ترقد بحنو على ضفة النهر. تستحيل المرأة في نهرك لسمكة طيبة، لا أكثر ولا أقل.

كنت أنا دالتك في كل هذا العالم، وكنت يقينك العميق بالغنى في أزمنة القحط، والانتماء في لحظة اللا يقين بشيء، والطرب حد الانتشاء في ساعات وأيام وأشهر المجاعة. لم أضيعك يا حبيبي ولم أتركك وحيداً.. صارت البلاد أمك من بعدي والنساء رحمك الحميم، وبيوت السودان الطيبة كلها بيتك..

“حبيبتي بستلطفها وما داير يزول يعرفها”.. أنت نفسك لم تكن تعرفها، كانت تحسها في كل شيء حولك ولكنك معمي بطينٍ ما، بجوقة عازفين سكارى، ببشر يضحكون من أعماقهم بصخب، بنساء ينظرنك كضحية محتملة لنزواتهن العارضة، يا أعزبي الوحيد.. يا أجمل عازب في العالم. وكانت نساء الحي يتمثلنك في كل شيء، من وراء زجاج النوافذ، وحيطان الطين المائلة، وأزقة أمدرمان الطلسمية، كنت شجرة حنائهن، ورائحة الند والبخور، ومعمدان الدُخلة.

كنت الدم فواراً ينزل من أعضاء العروس، وآهتها الشجية، مُخضبٌ بالحنين كنت وبالأغنيات، بالتمتم، ب:”أنت يا قلبي المتيم كنت خالي كنت نائم ما رأيت سهد الليالي”، وبا “يعصفير المحنة يا متلي وحداني وأحنّا اتوسد الشوق واستريح ما كفاية كتير رحلنا”.

” كيف نخلي الريد؟!!”.. الريد بصيرتنا يا حبيبي يا المريود نصيبي.. دم الريد يجري في عروقك مثل نهر، أحلف بالذي سوى “توتي”، بريدك يا حبيبي بريدك، لم تكن وحيداً قط.. كنت نزهة الأبد في دمي، ولطاما انتظرتك، أنتظرت أن تعرف، تعرف أنني أحبك، وأنني معك.

تقول الحكاية: في عز ليل أمدرمان خرج المغني لحفل عرس، طارت العروس وحلقت عالياً في فضاء الأبد. فخرج هو الآخر ولم يعد.. حتى الآن.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى