مع ترسيم الحدود.. الفشقة.. لا تفاوض حول الأرض!!

 

الخرطوم- محجوب عثمان

حينما بدأ تمرد التغراي على السلطة الفيدرالية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، لم يكن رئيس وزرائها، آبي أحمد، يتصور أن تداعات الحرب ستمتد لتشمل السودان الذي وصلت علاقاته معه الآن إلى شفير الانهيار، وعندما قرر السودان إغلاق حدوده لمنع تسلل المتمردين إلى أراضيه، كان الهدف منعهم من استغلال أراضٍ سودانية لشن هجمات على الجيش الفيدرالي الإثيوبي، وكان لا بد له لتحقيق ذلك الهدف من أن يبسط السيطرة أولاً على تلك الأراضي الشاسعة في منطقتي الفشقة الكبرى والفشقة الصغرى، التي تسيطر عليها مليشيات إثيوبية تقول حكومة أديس أبابا إنها عصابات متفلتة تُعرف بـ”الشفتة”.

سيطرة

وقد تأتي للجيش السوداني مد سيطرته على كل أراضيه، بيد أن ذلك لم يعجب حتى آبي أحمد، الذي أنفق الجيش السوداني دماءه وزمنه وأمواله لتأمين عدم اتخاذ الفشقة حديقة خلفية للتغراي تأتيه نيرانها من حيث لا يتوقع، فكان أن لاقى الجيش السوداني جزاء سنمار من إثيوبيا التي عمدت على التصعيد المتواصل لدرجة إرسالها طيرانها الحربي أمس “الأربعاء” ليحلق فوق أراضي الفشقة داخل الحدود السودانية.

خطة مرسومة

من يراقب الأحداث منذ بدايتها في نوفمبر الماضي، يجد أن إثيوبيا انتظرت حتى فرغت من حسم تمرد التغراي، ومن ثم تفرغت لمواجهة الجيش السوداني، غير أن الفترة الأولى لم تخلُ من محاولات منع القوات المسلحة السودانية من الانتشار في أراضي الفشقة، فكان أن تعرضت قوة عسكرية سودانية لقصف في منطقة جبل أبو طيور، في كمين مسلح أسفر عن جرحى وشهداء، بيد أن ذلك مثل نقطة تحول، إذ كان الجيش السوداني حينها يقوم فقط بتمشيط المنطقة ليتحول الانتشار بعد الكمين المسلح إلى انتشار واسع يسترد مئات الآلاف من الأفدنة ويحرر عشرات القرى التي كانت تسيطر عليها المليشيات الإثيوبية.

“شفتة” حكومية

يتضح لاحقاً أن حكومة إثيوبيا التي تصر وتلح طوال ربع قرن مضى بأن من يستعمرون أرض السودان عصابات “شفتة” ومليشيات خارجة عن القانون، ما هم إلا مواطنين تم دفعهم لمطامع في الاستيلاء على تلك الأراضي.

ويقول خبير القانون الدولي، عضو البرلمان المستقل السابق د. عبد الجليل عجبين في حديثه لـ(الصيحة)، إن الحكومة الإثيوبية كان لها أن تشكر حكومة السودان على التخلص من المليشيات المسلحة وعصابات الشفتة، لكنها اتّجهت لتُوهم العالم بأن السودان يعتدي على أراضيها، وهذا أمر يشير بوضوح إلى أن مَن كانوا في الفشقة ليسوا “شفتة” أو مليشيات خارجة عن القانون.

أحقية معترف بها

أحقية السودان في أراضي الفشقة أمر محسوم ومعروف لكل العالم وفق اتفاقيات مضى عليها أكثر من قرن من الزمان، وقد قطع بذلك رئيس المفوضية القومية للحدود د. معاذ تنقو أمس، وأكد وجود أطماع إثيوبية قديمة في الأراضي الزراعية السودانية، مبيناً أن التعديات الإثيوبية على الأراضي السودانية بدأت منذ العام 1957م في خرق واضح لاتفاقيات الحدود التاريخية بين البلدين، مبيناً أن التعديات الإثيوبية في البداية كانت من خلال ثلاثة مزارعين، ثم زادت التعديات على مر التاريخ حتى وصل عددهم إلى ما يزيد عن 10 آلاف مزارع، واتهم إثيوبيا بالتملص عن التزاماتها بخصوص اتفاقيات الحدود المحسوم أمرها منذ العام 1903. وأكد إقرار الحكومة الإثيوبية بصحة موقف السودان بشأن ملكية الأراضي المذكورة، منوهاً إلى أن جميع اجتماعات اللجان طوال الفترة الماضية لم يتم التطرق فيها إلى إعادة النظر في اتفاق الحدود وأن الحكومة الإثيوبية مقرة بالحدود التاريخية وفقاً لترسيم المجر قوين.

الأمر الواقع

من خلال سير خطوات التصعيد وادّعاء إثيوبيا بأن السودان يعتدي على أراضيها، يتضح مخططها الرامي للاستيلاء بسياسة الأمر الواقع على تلك الأراضي، وهذا ما ذهب إليه معاذ تنفو عندما قال “أديس أبابا تريد إجبار الخرطوم على قبول الوضع الراهن”، واتهمهم بعدم الالتزام باتفاقية 1972 الحدودية الموقعة بين الحكومة السودانية والإمبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي، لافتاً إلى أن ادعاءات إثيوبيا بأنها لم تكن طرفاً في اتفاقية العام 1902 غير صحيحة، وقال “لدينا ما يثبت ذلك”.

تسويف إثيوبي

وأوضح تنقو أن الحكومة الإثيوبية ظلت تماطل وتتنصل عن اجتماعات وضع علامات الحدود، موضحاً أن السودان التزم بسداد تكلفة وضع العلامات حال تعذر إثيوبيا، مشدداً على أن الحدود لم تكن يوماً محل نزاع، ورغم أن السودان يؤكد على أعلى مستوياته أن قواته انفتحت على أراضٍ سودانية وإن ذلك أمر لا يقبل الجدال، إلا أن إثيوبيا ترى غير ذلك وتواصل التصعيد السياسي والعسكري.

تصعيد

وأمس الأول، قصفت قوات إثيوبية منطقتين داخل الحدود السودانية، أسفر القصف عن 5 قتلى كلهن نساء وطفل، بينما فُقدت امرأتان تبيّن لاحقاً أن إحداهما لقت حتقها في القصف بعد العثور على جثتها في المزارع، فيما لا تزال المرأة السابعة مفقودة، وأدانت وزارة الخارجية الهجوم واعتبرته مُخالفاً للأعراف الدولية، ودعت إثيوبيا لعدم تكراره باعتبار أن الهجوم تم من داخل الأراضي الإثيوبية على أراض سودانية، وفي وقت سابق شكك الجيش السوداني في أن من يواجههم ليسوا مليشيات على اعتبار أن نوعية الأسلحة التي يتم القصف بها على القوات السودانية لا يمكن أن تمتلكها مليشيات كونها أسلحة ثقيلة خاصة بالجيوش.

اختراق جوي

وأمس “الأربعاء”، اخترقت طائرة عسكرية إثيوبية، الحدود السودانية الإثيوبية، ما اعتبرته الحكومة في الخرطوم تصعيداً خطيراً وغير مبررٍ ويمكن أن تكون له عواقب خطيرة، ويتسبب في المزيد من التوتر في المنطقة الحدودية.

وأدانت وزارة الخارجية السودانية، التصعيد من الجانب الإثيوبي وطالبته بأن لا تكرر مثل هذه الأعمال العدائية مستقبلاً، نظراً لانعكاساتها الخطيرة على مستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين وعلى الأمن والاستقرار في منطقة القرن الأفريقي.

خطة التصعيد

ويبدو أن إثيوبيا تقود التصعيد وفق خطة تريد من خلالها وضع السودان أمام أحلاهما أولهما القبول بالتفاوض، ومرها الدخول في الحرب، فظهور الطائرة الحربية لم يكن إلا حلقة بدأها المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية دينا مفتي أمس الأول في مؤتمر صحفي بأديس أبابا قال للصحفيين، “يبدو أن الجانب السوداني يسبق ليشعل الموقف على الأرض”، وأضاف “هل ستبدأ إثيوبيا حرباً؟ حسناً، نحن نقول دعونا نعمل بالدبلوماسية”، لكن إلى أي مدى ستواصل إثيوبيا حل المسألة باستخدام الدبلوماسية؟ كل شيء له حد”، فإثيوبيا تريد الآن إرسال الرسالة الثانية بأن صبرها قد نفد.

رد فعل

وفي سياق التوتر، أكدت مصادر رسمية سودانية لـ”العربية”، أمس الأربعاء، أن “التهديدات الإثيوبية لا تجدي نفعاً”، مؤكدة في الوقت ذاته أن الخرطوم ملتزمة بحل الخلاف عبر طاولة ترسيم الحدود، مشددة على أن القوات العسكرية السودانية متواجدة في أراضٍ سودانية وفق القانون الدولي، وتمنع الآن مطامع إثيوبيا الأراضي السودانية وتريد فرض إرادتها، لكن المصدر أكد أن الجيش السوداني قادر على دحر أي محاولة لاختراق الحدود.

ويرى خبير القانون الدولي د. عبد الجليل عجبين، أن هناك أياد أجنبية عبثت بالتغراي لتقود البلدين إلى حرب مفتعلة تفضي إلى تفاوض يحقق لتلك الدول الأجنبية ما تريده في المنطقة، مشيراً الى أن السودان يجب أن لا يستجيب لأي مبادرة حوار حول أحقيته في الأراضي، كون أن ذلك أمر مفروغ منه منذ اتفاقية 1903م.. وكانت الإمارات العربية المتحدة قد دعت كلاً من السودان وإثيوبيا إلى تفادي أي تصعيد على خلفية التوتر العسكري على الحدود بين البلدين، مبدية قلقها من تطورات الأوضاع في المنطقة.

وأعربت الإمارات، في بيان صادر عن وزارة خارجيتها أمس الأول الثلاثاء، عن “تطلعها إلى تفادي التصعيد وعودة التهدئة بين جمهوريتي السودان وإثيوبيا الفيدرالية الديمقراطية”، وأشارت إلى “عمق ومتانة العلاقات التي تربط دولة الإمارات وكلا البلدين الشقيقين”، مشددة على “أهمية أن يعمل السودان وإثيوبيا معاً لتغليب الحكمة وبدء الحوار ووقف أي أعمال من شأنها زيادة التوتر”، ودعت “لتغليب خطاب التعاون والشراكة بين البلدين الجارين وبما يلبي آمال وتطلعات شعبي البلدين في تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار”.

شروط التفاوض

عدد من الخبراء استطلعتهم (الصيحة)، اتفقوا على أن السودان يجب أن لا يخضع لأي تفاوض حول أحقية الأرض باعتبار أن ذلك أمر محسوم لأكثر من قرن من الزمان وتعترف به كل الدول، ولكن يجب أن يكون التفاوض حول انسحاب بقية القوات الإثيوبية من الأراضي السودانية ووضع علامات الحدود النهائية لوضع حدٍّ لأي خلاف بين البلدين مستقبلاً.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى