حمدوك و القراي.. وأد للفتنة ام ردة على الثورة؟

تقرير: صلاح مختار

كان أمراً طبيعاً أن يدفع مدير المركز القومي للمناهج القراي باستقالته من منصبه ويعدد أسبابها ويدافع عن نفسه لأن قرار تجميد العمل بالمقترحات المطروحة من إدارة المركز والبحث التربوي وضع القراي في موقف لا يحسد عليه خاصة أنه تعهد بمغادرة موقعه إذا استجابت الحكومة لما أسماها بـ(الحملة ضده) وأوقفت تغيير المناهج.. وطبقاً للقراي فقد هدد من قبل بمنبر (سونا) بمغادرة موقعه حال إيقاف مشروع تغيير المناهج بقوله: (إذا استجابت الحكومة للحملة التي يقودها فلول النظام السابق، والحكومة الجديدة وافقت على كلامهم وقالت لينا وقفوا أنا بمشي وأضاف  القراي (لانو أنا ما جئت عشان يستمر المنهج السابق أنا جئت عشان أغير المنهج). ربما لحكمة يعلمها رئيس الوزراء د. حمدوك آثر الاستجابة للأصوات التي تصدح بوأد الفتنة ووقف العمل بالتعديلات فقام بتجميدها وكوّن في ذات الوقت لجنة قومية تضم التربويين والعلماء المتخصصين وتمثّل كافة أطياف الآراء والتوجهات في المجتمع، لتعمل على إعداد المناهج الجديدة حسب الأُسس العلمية المعروفة في إعداد المناهج وتراعي التنوع الثقافي والديني والحضاري والتاريخي للسودان ومتطلبات التعليم في العصر الحديث .وبالتالي من الطبيعي من القراي الذي يواجه عاصفة من النقد والهجوم من قطاعات واسعة من المجتمع أن يضع حدًا لذلك الجدل وينتصر لذاته ولقراره الذي تبناه سلفًا بالاستقالة والجنوح للعاصفة.

أسباب الاستقالة

القراي على خلفية تدخل حمدوك وإلغاءه المناهج الدراسية المقترحة، بعد الجدل الكثيف الذي سببته المناهج في الأيام الماضية قدم استقالته غير أنه صوب في ذات الوقت انتقادات للنهج الذي اتبعه رئيس مجلس الوزراء للتدخل في قضية المناهج. وعاب عليه  عدم تدخله، أو مستشاره الإعلامي، للدفاع عن حقي كمواطن، في تولي المنصب، ما دمت كفؤاً له، بغض النظر عن رأي الآخرين، في أفكاري الدينية أو السياسية. وقال: ولكنه صمت من تلك اللحظة، بدأ التنازل للهوس الديني، والتخاذل عن مبادئ الثورة.  قال إنه ظن  أن حمدوك اطلع على سيرتي الذاتية، التي توضح أنه مؤهل أكاديمياً لتولي هذا المنصب ومؤهل للعمل في حكومة جاءت بها ثورة ديسمبر المجيدة، وقال بعد تعييني بأشهر، قامت الموجة الثانية من الإثارة والتكفير، تم فيها تهديدي بالقتل. وذلك لأن فلول النظام السابق، وبعض أئمة المساجد، ذكروا زوراً وبهتاناً، أنني حذفت القرآن من المقررات الدراسية بحسب بيانه.

مقطع أخير

وقال القراي إن المركز القومي للمناهج، يتبع لمجلس الوزراء، كان من واجب رئيسه استدعاءه أثناء الزوبعة، والسؤال عن الأسباب، وتطلب الاطلاع على كتاب التربية الإسلامية، لترى هل تم حذف القرآن أم لا؟ وقال لقد اضطررت للدفاع عن نفسي والخروج للإعلام بنفسي. ورأى: حينما ثارت الزوبعة الأخيرة، بسبب صورة مايكل أنجلو في كتاب التاريخ، وقال إنه قابل المستشار الإعلامي السليك، وعندما زادت الإثارة والاستعداء، لم يتم استدعاؤه أو الاستماع إليه، حتى قام عدد من أئمة المساجد بتكفيري وإهدار دمي.

وانتقد القراي حمدوك بشأن تشاوره مع بعض الجماعات الدينية وقال: كان الأجدر مهنياً وأخلاقياً، التشاور معه، وشن هجومًا عليه بشأن مشاورته رئيس الإخوان المسلمين الذي وصفه بالتكفيري، مبيناً أن وضع المناهج يفترض أن يحقق أهداف الثورة التي أطاحت بهم؟! وقال إن رئيس الوزراء لم يطلع على اللجنة التي كونها بشأن تنقيح منهج المرحلة الابتدائية التي ضمت (64) دكتوراً من التربويين المتخصصين، والأساتذة، ومعلمين من مختلف المراحل، يمثلون مختلف الاتجاهات والآراء، وتساءل بالقول: فهل ستكون اللجنة التي ستكونها أفضل بإضافة أنصار السنة والإخوان المسلمين؟! وقال إنه وجد نفسه غير مستعد للاستمرار مع حكومة، ضعفت أمام المكون العسكري، ورضخت لضغوط فلول النظام المدحور، ورأت دون الرجوع لشعبها، أن تسلم الثورة التي مهرت بدماء الشهداء، لقمة سائغة لفلول النظام البائد، وقوى الهوس الديني، والتطرف الأعمى. لقد اختارت حكومتك جانب سدنة النظام واخترت أنا جانب الشعب.

وأد الفتنة

ولعل استجابة حمدوك للأصوات الرافضة للمنهج فيه انتصار للأصوت الكثيرة من المفكرين والعلماء الذين يرون في ذلك وأداً للفتنة وكان آخرهم الاجتماع الذي عقده حمدوك مع هيئة علماء السودان بشأن المنهج الذي اعتبرت فيه الهيئة القرار رغم تأخره إلا انه خطوة في الطريق الصحيح يضع الأمور في نصابها، وأداً للفتنة الدينيةوالمجتمعية التي كادت أن تحدث. ورأت في بيان أنَّ أمر التنشئة السوية والتربية القويمة والتعليم الراشد، يحتاج إلى إجماع الكلمة واحترام المجتمع، واستصحاب التنوع السوداني الأصيل والتواثق على رؤية توافقية، ينبغي أن تأتي عبر مؤتمر قومي جامع للتعليم.
وطالب باجتثاث خطاب الكراهية من قاموس الحياة السياسية والدينية والاجتماعية في البلاد.

مرحلة توافق

وبرر حمدوك أسباب تجميد العمل بالمقترحات أن الفترة الانتقالية التي يمر بها السودان، هي مرحلة للتوافق حول أُسس إعادة البناء والتعمير لسودان يسع الجميع، وقال: نستطيع بحسن إدارة تنوعنا أن نكتسب القوة والتماسك الذي يساعدنا على عبور هذه الفترة الحرجة من تاريخ البلاد. وأضاف أن هذا الحراك الاجتماعي والنقاش حول قضية المناهج وتطويرها. وأكد أنه ظل يتابع الجدل الذي اندلع حول قضية مقترحات المناهج الجديدة، حيث التقى وتشاور خلال الفترة الماضية مع طيف واسع من الأكاديميين والتربويين والطوائف الدينية، وعدد من الفاعلين في المجتمع المدني السوداني. معتبراً قضية إعداد المناهج هي قضية تحتاج إلى توافق اجتماعي واسع وهي قضية قومية تهم الجميع بحيث تستند المناهج التربوية على المنهج العلمي الذي يشحذ التفكير وينمي قدرات النشء ويُحفز القُدرات الإبداعية على التفكير والابتكار، ويغرس في العقول روح التأمل وأساسيات العلوم الحديثة والرياضيات والفنون ويفتح الآفاق للانفتاح على العالم وتاريخه وحضاراته. وأكد أن كل المجموعات التي التقاها أمنت على المبادئ وعلى ضرورة تغيير المناهج القديمة الموروثة من النظام السابق بحيث تراعي هذه الموجهات وتتسق مع مبادئ ثورة ديسمبر المجيدة وقيم التنوع الثرّ الذي تمتاز به بلادنا.

صوت لوم

ويبدو أن رياح الانتقاد التي اشتعلت في منصات التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض لمقترحات المركز القومي للمناهج بدأت دائرتها تتسع وبدأت تأكل كما تأكل النار الهشيم في المجتمع، كانت تنذر بفتنة كبيرة وسط المجتمع, وفي الوقت الذي طالبت فيه مجالس المدينة وخطباء المساجد بوقف التعديلات، صوّب القراي صوت لوم لوزير الشؤون الدينية والأوقاف نصر الدين مفرح، بترك الأئمة والدعاة باعتلاء منابر المساجد دون تأهيل، قال إن عدم ضبط المنابر يؤدي إلى الفوضى والتحريض على القتل، وأن هذا الأمر لن يتوقف عند القراي فقط، خاصة بعد ترديد المصلين “لا إله إلا الله والقراي عدو والله”. وطالب القراي، وزارة الشؤون الدينية، بتأهيل الدعاة والأئمة حتى يؤمنوا بالاختلاف في المعتقدات والأديان. هذا الأمر وضع المراقبين أمام تساؤلات جوهرية حول تجريم القراي فهل القراي مذنب أم مفترى عليه؟

رؤية جديدة

التعديلات التي أقرها مركز المناهج وضعت المجتمع وليس القراي وحده على صفيح ساخن ونار بدأت شرارتها تستعر, رغم أن البعض دافع بشدة عن القراي ويرى في الهجوم عليه ردة وانتكاسة غير مبررة، غير أن القراي نفسه تعرض بسبب ذلك لتهديد ووعيد بالقتل الذي وصفه بغير النزيه وغير الشريف، واعتبره فجوراً في الخصومة، بيد أن القيادي بقوى الحرية والتغيير ساطع الحاج كذلك دافع بشدة عن مدير المناهج ورأى أن القراي لا يستطيع أن يضع المناهج بنفسه، وإنما الجهة التي تضعها هي لجان مختصة بهذه المهمة وفق استراتيجية الدولة في كيفية إخراج النشء . واعتبرها معركة بين الظلاميين والمستنيرين. وقال: عندما جاءت الثورة عملت على إزالة كل التشوهات التي لحقت بالمنهج في كل المواد لتواكب بشكل علمي. وقال ساطع لـ(الصيحة) إن كل الدول المتقدمة وكما يجري في السابق تقوم لجان مختصة تتعلق بالنشء فيها بوضع المناهج. ولذلك يرى أن تغيير هذه المناهج التي قامت على “أمريكا روسيا قد دنا عذابها” أدى إلى اصطفاف من القوى الظلامية للالتفاف حول هذه المتغيرات. وقال: عندما ندافع عن القراي فإنهم لا يقصدون الدفاع عنه شخصياً وإنما عن تغيير المناهج وإصلاحها، وقال إن الخدمة المدنية يجب ألا ترتبط بالقناعات السياسية لشاغليها، ولكن المنصب تحدده حيثيات محددة هي التي تأتي بصاحبها إليه وتساءل هل يستطيع القراي بنفسه أن يضع المناهج دون إشراف وعمل كل اللجان المختصة أو حتى الاهتمام والمتابعة من أولياء الأمور؟ أجاب بنفسه بالقول:  “هذا مستحيل”.  وزاد: يمكن الآن أن يذهب القراي، ولكن هل يعني ذلك أن المشكلة انتهت؟ قال المعركة لا تنتهي لأنها مختلفة، وقال الذين يصرخون الآن على الإسلام ليتهم صرخوا في موضوع الإجلاس والتعليم، كان على الأقل يمكن أن نفهم موضوع صراخهم. مشيراً إلى أن الأمر وموقفهم ليس دفاعاً عن القراي ولكنه موقف مبدئي عن تغيير المناهج برؤية ثورية جديدة.

لا تُبقي ولا تذر

ولكن الكاتب د. عصام بطران يرى عكس ما سطره ساطع في مقال منشور، ويرى أن من جاء بالقراي على ظهر سفينة التغيير أراد إحداث فتنة لا تبقي ولا تذر باختياره مديراً للمناهج والكتب بوزارة التربية والتعليم، وقال: على الرغم من التوفيق الذي لازم قرار رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك بتجميد المنهج الذي أعده القراي كاستجابة حتمية لضغوط الرأي العام بفئاته المختلفة فكرياً وأيديولوجياً وسياسياً، إلا أن أصل المشكلة ليس في تغيير المناهج ولا تجميد العمل بما تم إعداده، ولكن قمة الأزمة يكمن في بقاء القراي نفسه مديراً للمركز القومي للمناهج لأنه شخصية خلافية مرفوضة من غالب المجتمع. وتابع في نفس المقال: كل الأمر يتعلق بشخصية القراي وتوجهه الفكري وتخوف الناس من تغلغل أفكار الجمهوريين داخل المنهج التعليمي لأبنائهم، وهذا خط أحمر تعارضه كافة شرائح المجتمع. وقال: لا أبالغ أن قلت حتى بعض قوى الحرية والتغيير يعارضون تعيينه من الأصل مسؤولاً عن المناهج والكتب، وقال: سيظل القراي كلمة (حق) هي تغيير المناهج ولكن أريد بها (باطل) هو مسؤولية القراي نفسه عن تغيير المناهج, إقالة القراي أمر واجب درءاً للفتنة وإطفاء لنارها !!

تعديلات جذرية

فيما شدد رئيس التجمع الاتحادي بابكر فيصل على أنه خلال حقبة الإنقاذ أصبحت المناهج حقلاً للتجارب الفاشلة وغير المدروسة، وتم تغيير المناهج بلا أساس علمي ووفقاً لمنظور أيديولوجي ينبني على الحفظ والتلقين والاجترار ولا يشجع على النقد والإبداع والابتكار، كما رفعت الدولة يدها عن التعليم الحكومي بتبني سياسة الخصخصة التعليمية. ونوه إلى أن كل ذلك ضمن خطة سياسية لا تضع التعليم في مقدمة أولوياتها لإحداث النهضة الشاملة، وفي إطار سياسة تحرير اقتصادي منفلتة ومنحازة للفئات العليا والغنية في المجتمع، ووفق برنامج للتجييش المجتمعي يبدأ بملابس الطلاب ولا ينتهي بالشحن الجهادي العنيف في المقررات الدينية المتضخمة.  وقال فيصل إنه إضافة لما ذكره الدكتور القراي، فإن المنهج ينطوي على تسييس واضح، حيث تم وضعه في إطار برنامج التمكين الذي تبناه النظام الإسلاموي الشمولي، والذي كان من أبرز أهدافه كما قال واضعوه “إعادة صياغة الإنسان السوداني” وفقاً لأيدلوجيا الإسلام السياسي. وتابع “لذا يصبح من الضروري إعادة النظر في المناهج التعليمية بغرض إزالة التشوهات التي أصابتها ، ولمعالجة العديد من أوجه القصور الأخرى التي أشار إليها مدير المركز القومي للمناهج والبحث التربوي”.

برداً وسلاماً

قرار حمدوك بتجميد تعديلات مركز المناهج كان على البعض برداً وسلاماً كما قالت هيئة شؤون الأنصار التي قالت إن قرار تجميد التعديلات التي حدثت في مقررات التربية والتعليم وإيقاف العمل بالمنهج الجديد وتكوين لجنة قومية عليا للإعداد لمؤتمر قومي خاص بالمناهج برداً وسلامًا، وقال الأمين العام للهيئة “عبد المحمود أبو” في بيان صحفي، إن قرار رئيس الوزراء  جاء برداً وسلاماً على غالبية الشعب السوداني، ووأد الفتنة في مهدها. واعتبر أبو الطريقة التي اتبعت في تعديل المناهج وتغييرها مصحوبة بتصريحات مستفزة من مدير المركز القومي للمناهج وحَّدَت الشعب السوداني بصورة غير مسبوقة ضد مسئول في مؤسسة من مؤسسات الدولة يريد تحويل المؤسسة القومية لخدمة فكرة أيديولوجية تخصه هو ومن معه. غير أن أحد المصادر أكد لـ(الصيحة) أن قرار حمدوك لا يعني به تجميد ما تم إقراره من مناهج، وإنما تمت الإجازة عليها من قبل وتمت طباعة الكتب. وأكد أن تجميد مقترحات المناهج يشمل ما لم يتم البت فيه بعد للمؤتمر المنعقد حالياً لوضع مقترحات وتصورات لمناهج مرحلتي الوسطى والثانوي, فيما دعت حركة القوى الجديدة الديمقراطية (حق) في بيان لتنظيم حملة لرفض قرار رئيس الوزراء بتجميد مقترحات المناهج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى