وائل محجوب محمد صالح يكتب : حسن خليفة العطبراوي.. نهر الجمال والإبداع الدفاق

على مهاد عطبرة المنبسطة ومن دمدمة ورشها ورزيمها، وصافرات قطارتها، الآيبة لمحطة الوطن الكبير، من شتى الفيافي والنواحي، شرقاً وغرباً ووسطاً.. شمالاً وجنوباً، ومن تعايش أهلها الذين جلب أغلبهم للمدينة صفا ومروة السعي والكدح وسكك حديد السودان، خرج قيثارة الفنون حسن خليفة متوشحاً بالفكر والوعي وعشق الفن والترفع به لسماواته البعيدة.

  • فاندمج في مدينته وارتبطت به حتى صار لقبه الذي ذاع في العالمين هو العطبراوي.. فيا له من اسم جدير بالخلود في سفر المغنين الأماجد العظام.. ويا لها من مدينة تستحق التمجيد.

بدأ العطبراوي المولود في العام ١٩١٩م مسيرته شابًا صغيراً نال تعليماً أولياً وكان نصيبه من الخلاوي مثل أقرانه حاضراً، فاتجه للعمل مبكراً وسكنته شعلة الفن، وانتقل للقاهرة في صباه الباكر، وحذق هناك العزف على آلة العود وأجادها، وعاد سريعًا ليجد في الفن سلواه، مترددًا على المقاهي هائماً مع الأغنيات المنبعثة بأصوات فناني ذاك الزمان الكبار سرور وكرومة، وما لبث أن استقر في مهنته التي فاخر بها زماناً وهي مهنة الجزارة.

جمعته الأقدار في زمان باكر من صباه برفيق دربه وخير صحبه أجمعين حبر الفن الأعظم عبد العزيز داؤود، الذي كان يعمل وقتها بالسكة حديد، فشكلا من فورهما ثنائياً ذاع صيته في الأرجاء كصداحين من طراز نادر، حذقا الدرر وملكا نواصي التطريب، واحتكرا نادر الأغاني ماركة مسجلة، وبعثا للوجود أغاني ركن الفن الأعظم ورائد التجديد خليل فرح.. وظل هذا حالهما طوال حياتهما المترعة بجميل المعاني والفنون وقيم الصداقة الحقة.

اختط العطبراوي لنفسه من أتون معركة البلاد للاستقلال جمره الوقاد، وبحس وطني عال حدد موقعه باكرًا صادحاً؛

يا غريب يلا لي بلدك

سوق معاك ولدك ولملم عددك

انتهت مددك

وعلم السودان يكفي لي سندك

ودفع الثمن سجناً وحصاراً، ولم يثنه ذلك عن موقفه، وكان مساهماً كغالب أهل تلك المدينة في معركة بناء الهيئة النقابية للعاملين بالسكة حديد، وانطلق في مضمار الأغاني الوطنية متخيراً ما يتناسب مع صوته الطروب، ووعيه الوقاد الفطن، متحدياً بالفن المستعمر بلا كلل أو ملل، لم يثنه سجن أو ضيق، فرفد المكتبة الغنائية بعدد من الدرر الوطنية المحرضة وعميقة المعنى، وطني العزيز، لن يفلح المستعمرون، أنا سوداني، لن أحيد، وكلها خرجت للوجود منذ منتصف الأربعينات وحتى بداية الخمسينات من القرن الماضي، في ذروة صعود حركة النضال ضد المستعمر، حتى وصفه الموسيقار محمد الأمين بالقيمة الفنية للبلاد، معتبراً إياه رائداً لفن الغناء الوطني العظيم.

استعصم نهر الغناء الاتبراوي الدفاق بمدينته ومهنته التي أحب، رافضاً هجرها والقدوم للخرطوم، رغم نداءات أحبابه واصدقائه الفنانين، زائراً من فترة لأخرى دار الإذاعة ناثرًا كنانته من الأغاني، التي سرعان ما تضج بها المجالس ويترنم بها الناس، وتلتقطها أجمل الجميلات ويوزعنها بينهن ولأحبائهن، حتى فاقت أغانيه مائتي أغنية بمكتبة الإذاعة “تنافس بعضها كألوان الزهور” كما صدح الأمير.

وطاف بها ما بين الفصيح والدارجي، فاستمع إليه يترنم بحبيبتي من تكون، لتعلم ما تبلغه المقامات العلا في مدارج الفن والتطريب، أو فاستمع إليه نائحاً مستنطقاً أعمق مواطن الإحساس في نفسه، في بكائيته العجيبة .. في الأسى ضاعت سنيني؛

ﻛﻞ ﺻﺪﺍﺡ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻳﻚ..

ﻳﻐﻨﻴﻪ ﺣﺒﻴﺐ

ﻭﺃﻧﺎ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﺭﻯ

ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻏﺮﻳﺐ

ﻟﻴﺘﻬﺎ ﻳﺎ ﺑﻠﺒﻠﻲ ﻳﻮﻣﺎً

ﻟﻨﺠﻮﺍﻱ.. ﺗﺠﻴﺐ

ﺫﻫﺐ ﺍﻟﻌﻤﺮ..

ﻭﻣﺎﻟﻲ ﻣﻦ ﻟﻴﺎﻟﻴﻬﺎ ﻧﺼﻴﺐ

أو تجول في عجيبة عجائبه التي صدح فيها مترنمًا ومعبرًا عن جمال التعايش والمحبة التي تفيأ ظلالها في موطنها، إلى مسيحية؛

يا سلوى المحزون

ياقيثارة القلب الجريح

يا درة فاقت على الأتراب

بالقد المليح

يا زهرة أنفاسها كالعطر

عبقت الضريح

أهوى جمالك

والشعور يزينه القول الصريح

قد هزني منك الجمال

فجئت بالشعر الفصيح

فترفقي يا هذه..

فالناس من جسد وروح

قدم العطبراوي لمحبيه من جميل الأغاني وتنوعه، ما يجعله متربعًا لأزمان في القلوب، ورمزًا لمدينة باذخة بالحب والكفاح وبالفن والجمال، فانظر لتلك النجوم المتلالئة وذاك العقد المنظوم الذي يجمل جيد الغناء (سهران، سافر، صابر معاك، نسانا حبيبنا، ما قادر أنساك، ما اعتيادي، خلاص ارتحت من حبك، جاي تسأل عني ليه، في بعدك، يا محبة، ديمة في العشاق، باسم الحب، أشرقت في عيني، أرحميني، أندلسية، الحلاتو ما بتكلفها، أقول أنساك).. وهذا غيض من فيض فابحث تجد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى