ترايو أحمد علي يكتب : مصفوفة “الرفع من قائمة الإرهاب” والتطبيع مع إسرائيل

في لغز العلاقة السودانية الأمريكية الإسرائيلية، كيف تشكل محاولة تفتيت مصفوفة “الرفع من قائمة الإرهاب” والتطبيع مع إسرائيل والحوافز المالية، ضياعاً لفرصة ذهبية؟

 

أولاً

*الشاهد في الأمر أنّ استراتيجية معالجة موضوع “رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب”، سواء من حيث الشروط المُلحقة بها (التي ظلت تتجدد معطياتها السياسية كل مرة) أو من حيث لحظة توقيته الزماني قد خضع كما هو حال القضايا الاستراتيجية الأخرى إلى “مزاج” القوى السياسية السوداني،ة وهو مزاج قد جانب البراغماتية والواقعية السياسية، واتّسم بالتناقُض والتقاطُع والخلاف والاختلاف والصراع والنزاع والخصومة والشِجَار والشِقَاق والانشقاق والعَداوَة والعِرَاك والمُشاحَنَة والمُشاكَسَة والتخوين وخلط حابل أجندة الثورة بنابلها لتنتهي (أو في طريقها إلى أن تنتهي) من دون علاج. هذا ما يجعل من إمكانية الاستفادة من أمر رفع البلاد من القائمة الأمريكية للإرهاب ضياعاً لفرصة ذهبية كان من المُمكن اقتناصها.

*ثانيا*

بدايات القصة والدخول الإسرائيلي في منتصف الطريق:

كما يعلم الجميع تعود قصة وضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب إلى 1993، حينما ساءت العلاقات بين حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في ظل إدارة الرئيس جورج بوش الأب ونظام الإنقاذ الإسلاموي في السودان، حينما وجدت الأخير متلبساً في جرائم دعم المنظمات الإرهابية، بدءاً من منظمة حماس الفلسطينية، وإيواء كارلوس، ولاحقاً تنظيم القاعدة التي كان يقودها مؤسسها أسامة بن لادن وتتخذ من السودان مقراً لها. تأزم وضع بقاء نظام الإنقاذ في هذه القائمة وزاد مفعولها بعدما عززت بالعقوبات الاقتصادية الأمريكية في مراحل لاحقة (خاصة بعد ارتكاب نظام الإنقاذ لجرائم الحرب والإبادة الجماعية في دارفور).

فيما جرت الكثير من المياه تحت الجسور منذ أن بدأت الدولة السودانية مساعيها في رفع نفسها من هذه القائمة، ولكن الطبيعة السرية التي يمارس بها نظام الإنقاذ علاقاته الخارجية لم تتح للشعب السوداني معرفة تفاصيل تلك المساعي التي بُذلت حيال معالجة هذه الأزمة، غير القليل مما كان يتسرّب إلى الإعلام الخارجي أو المتداولة منها شفاهةً في أحاديث مدينة الخرطوم (التي لا تعرف الأسرار). كل تلك المعلومات كانت تشير إلى أن نظام الإنقاذ قد لجأ “خِلسةً” إلى طلب مساعدة الحكومة الإسرائيلية للتوسُّط لغرض تقريب وجهات النظر بينه والإدارات الأمريكية والوصول إلى تفاهُمات لإدارة هذه الأزمة.

ثالثاً

الجديد تماماً عن الوجود الإسرائيلي في المناقشات الثلاثية حول إزالة السودان من هذه القائمة المقلقة للغاية هو موضوع تطبيع العلاقات مع إسرائيل نفسها كشرط للدور الإسرائيلي، وكذلك المكافآت المالية المُحتملة للسودان كما برز إلى السطح في أجندة ومناقشات “اليوم” أمس.

رابعاً

الجدل حول “مصفوفة” الحزمة السياسية وتوقيتها والتفويض حولها:

منذ انهيار نظام الجنرال عمر البشير وتغيير الوضع السياسي في السودان، اعتقدت قِوى التغيير والجمهور العام، وعلّقوا الآمال العراض في كل شيءٍ، وظنوا أن على الولايات المتحدة إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وقد استندوا في ذلك على حقيقة اختفاء الأسباب الكامنة وراء إدراج السودان في القائمة وانهيار النظام الإسلاموي الذي كان سبباً من وراء الأزمة، وهو ما دفع حكومة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك لوضع القضية على رأس أولوياتها، وقاد بنفسه حملة دبلوماسية واضحة لإثارة الموضوع مراراً وتكراراً أمام مسؤولي حكومة الولايات المتحدة وكذلك في المحافل الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي.

من جهة أخرى، قام رئيس مجلس السيادة الجنرال البرهان (الذي يعبر عن إرادة المكون العسكري في المجلس السيادي) بخطوة مُفاجئة من خلال اجتماعه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في كمبالا (أوغندا)، برعاية ووساطة الرئيس الأوغندي.

بالرغم من أن تحرُّك الجنرال البرهان لم يترك أية إشارة واضحة عن انقسام الحكومة إلى مُعسكريْن مُتعارضيْن في شأن الموضوع، إلا أنّ الخطوة قد ألقت ببعض الارتباك ودفعت بالجمهور السوداني والإعلام والعالم أجمع للتساؤل عن مستوى أو درجة الانسجام أو الاختلاف الموجودة داخل صفوف الحكومة في هذا الشأن.

خامساً

السودان والولايات المتحدة وإسرائيل. مَن هو المستفيد الأكبر من المصفوفة؟

الآن ونظراً إلى المُعطيات المُتوفّرة أمام الأطراف، فإنّ الخيارات واضحة جداً، خلافاً لحال الولايات المتحدة أو إسرائيل، فإنّ الأمر بالنسبة للسودان هو أقرب إلى وضع “إما أن تحصل على كل شيء وبأقل الخسائر أو أن تخسره كله”. هذا إذا ما أخذ في الاعتبار عامل الزمن المُتسارع لغير صالح السودان، وخَاصّةً أنّها هي الأكثر حاجةً إلى التعافي السياسي والمُساعدات المالية والدعم في أسرع وأقرب وقت ممكن. لهذا السبب بالذات يجب أن تُخضع تقديرات الحكومة السودانية للأمر إلى منطق “التكلفة والفائدة” أو “حساب الربح والخسارة” السياسة من منظور مصالحها وليس من منظور “المثالية” السياسية أو “التكتيكات” غير محسوبة العواقب.

الأمر بالنسبة إلى الولايات المتحدة تختلف من حيث التوقيت والدوافع. الولايات المتحدة تقف على أعتاب الانتخابات، وعلى الإدارة القائمة (إدارة الرئيس ترمب) وكما هو حال أية إدارة أمريكية مُقبلة على الانتخابات، فإن لها من المصلحة الراسخة في توجيه كل نجاح دبلوماسي وتجييره لأغراض انتخابية. لكن هذا بالطبع ليس ما يجب أن يقلق السودان. ما يجب أن يقلق حكومة السودان هو كيف يجب عليها أن تستثمر وتُحوِّل حاجة الولايات المتحدة هذه لمصلحتها وأن تنتظر إلى الحال أنها فرصة لها. أما بالنسبة لإسرائيل فالمؤكد في الأمر أنها هي الوحيدة التي تستطيع أن تتحمل أي عواقب يمكن أن تنجم نتيجة تأخير أو العملية أو الموضوع.

الأوفق بالنسبة للحكومة السودانية في هذه الحالة هو أن تنظر إلى الأمر من زاوية كيف أنّها تستفيد وليس انطلاقاً من زاوية الخوف من استفادة الأطراف الأخرى من العملية. يبدو أن غياب هذه النظرة الاستراتيجية هي المأزق.

بما أن الجنرال البرهان يدعم الصفقة بشكلٍ واضحٍ، فإن الفجوات داخل الحكومة السودانية سوف تزداد اتساعاً نتيجة تردد الحكومة المدنية التي تكبلها المواقف الرافضة لحاضنتها السياسية، أي قِوى الحرية والتغيير (FFC)، وهي بتصرفها هذا سوف تضيّق الفرصة وتنسف هامش المناورة السياسية لرئيس الوزراء. هذا مع ملاحظة أن دوافع الرفض لدى العناصر الرئيسية في داخل (FFC) هو لأغراض تكتيكية وليس لأسباب استراتيجية أو مبدئية. فالنصيحة التي تُقدِّمها الـ(FFC) لحكومة رئيس الوزراء وحوّلتها الحكومة إلى حجة لتبرير “التنصل” من قبول الحزمة السياسية هو تبرير واهٍ.

الحديث عن أن حكومة رئيس الوزراء هي “إدارة انتقالية” ليست لها من التفويض لاتّخاذ مثل هذا القرار هو حديث يفتقر كلياً إلى المنطق السليم، وبالتالي غير مُقنع على الإطلاق وبل إنها حجة لا تقف على الأرجل. فالصحيح أن الحكومة الانتقالية لها كل التفويض وكامل الصلاحية، وبل من واجبها أن تنتهز الفرص لضمان مصالح البلاد بما فيها تطوير العلاقات الخارجية وخاصة أن ما هو متاح أمامها من فرصة ربما قد لا تتكرر مرة أخرى وسوف تتحول إلى فرصة ذهبية “ضائعة”.

إنّ العواقب التي يُمكن أن تترتب من ضياع أو فقدان مثل هذه الفرصة لا تعني فقط تأخيراً لمطلب رفع السودان من قائمة الإرهاب فحسب، بل قد تنسف أيضاً فرص الحصول على الدعم المالي، هذا فضلاً على ما يمكن أن تسببه من تفاقُم الاحتكاكات داخل الحكومة نفسها على حساب انسجامها وفاعلية أدائها وبذلك يفتح احتمالات أخرى غير محسوبة العواقب.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى