الواثق كمير يكتب : مَنصُور خَالِدْ رَحَلَ عَنَّا: فريدُ عَصْرِهِ ونسيجٌ وَحدَهُ!

 

الحلقة (17)

منصور: لواء السُّودان

بناء الجسور بين الشمال والجنوب

بعد أن طوينا صفحة اللجان الشعبيَّة للانتفاضة فيما يخص “الشراكة” والمُشاركة في مبادرة طلواء السُّودان الجَّديد”، طلب مني د. جون المُضِي قُدُماً في إكمال صياغة الوثيقة المفاهيميَّة وبرنامج العمل، وترشيح اسمين آخرين للعمل معي في “لجنة تنظيم ورشة العمل”. فأبلغتُه أنَّ ياسر عرمان وشخصي أصلاً كنا نعمل سوياً في هذا المسعى، بدعمٍ مُقدَّر من د. منصور، وسأضيفُ د. محمد يوسف أحمد المصطفى، الذي كان مُقيماً في أديس، وشارك معنا في النقاش حول المبادرة في أمسية 25 يناير 1996، بعد عودتنا من أسمرا ودعوتك لنا للعشاء بمنزل الدكتور الطبيب لوكا مانوجا. وكان منصور متحمِّساً جداً لفكرة “لواء السُّودان الجَّديد” ولم يبخل بالإضافات لتطوير الوثيقة ولا بمحاولة البحث عن الدعم المادي. فقد عَرَّفنا أنا وياسر بابن أخت شقيقه السيد كمال أدهم، رئيس المخابرات العامَّة السُّعُوديَّة سابقاً، والمُستشار الخاص للملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، والذي تكفَّل بطباعة الوثيقة المفاهيميَّة وبرنامج عمل السُّودان في ورق مصقول، وتغليف أعدادِ مُقدَّرة منها، كما وعد بالمساهمة في تمويل ورشة العمل المُرتقبة.

في 22 يونيو 1996، بعثتُ من أبيدجان برسالة فاكس إلى د. جون في نيروبي (برقم الهاتف 254-2522161)، كانت بمثابة تقرير متابعة عمَّا قُمنا به من خُطواتٍ في طريق التحضير لورشة العمل، مُرفقة بمُقترح مُختصر لتنظيمها، وكذلك اتصلتُ وناقشتُ وكتبتُ الرسائل وقدَّمتُ الوثائق اللازمة لعددٍ من الشخصيات واستلمتُ رُدوداً من بعضهم. ضمَّت هذه الشخصيات: الخاتم عدلان ومحمد سليمان عبد الرحيم، شريف حرير، مأمون الباشا، الهادي الرَّشيد، كما أخطرته بأنَّ محمد يوسف موجود بالفعل في القاهرة وقد ربطتُه بمجموعتنا هناك، ووضعتُهُم كلهم في الصورة الكاملة منذ زيارتي للقاهرة في أبريل 1996، الماضي. ووعدتُ د. جون بأنَّني سأُبقيه على اطلاع بالتطورات في هذا المجال، واقترحتُ عليه أن يبدأ الاتصال بالأصدقاء المُجاورين لاستضافة الاجتماع، على أن يتم عقد الورشة خلال النصف الثاني من أغسطس، إذا سارت الأمور كما هو متوقع.

أكثر رُدُود الفعل إيجابيَّة على المُبادرة كانت من المرحوم الأستاذ الخاتم عدلان، الذي نشر مقالاً مُتميِّزاً تحت عنوان: “لواء السُّودان الجَّديد: حجرٌ في البركة الساكنة!”، في أبريل 1995. فأرسلتُ له خطاباً في 26 يونيو 1996، بعد أن علمتُ من ياسر عرمان ومحمد يوسف ما دار معه من حوار، شارك فيه د. جون قرنق ود. منصور، بغرض الوصول إلى فهمٍ مُشترك يقود لاتفاقٍ على العمل المُشترك من منبرٍ مُوحَّد. حاولتُ في رسالتي له أن أجيب على بعضٍ من تساؤُلاته وتحفُّظاته المشروعة، والتي تعرَّض لها ببلاغة في ورقته المذكورة أعلاه، خاصة وأنها كُتبت بعد حوالي الشهرين فقط من إعلان مبادرة لواء السُّودان، أي قبل محاولات تطوير الوثيقة الأوليَّة. فأجبتُ على أهمَّ هواجسه بأنَّ ليس لـ”لواء السُّودان الجديد” برنامجاً تمَّت صياغته سلفاً، أو هيكلاً تنظيمياً مجازاً، أو قيادة جاهزة، كما أنه ليس بصيغة عسكريَّة فحسب، وإن أوحى الاسم بذلك. بل، هو آليَّة سياسيَّة تدعو لتكامُل العمل الشعبي المُسلح مع العمل الجماهيري، كما أنه يسعى إلى بلورة مشروع فكري ووطني تهتدي به كُلُّ القُوى المُلتزمة ببناء “السُّودان الجديد” في سياق عمليَّة البناء هذه. ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أقتبس مُطوَّلاً من حديث د. منصور عن الخاتم بعد حواره مع جون قرنق، واصفاً له بأنه كان: «حواراً ناضجاً، جعلني أقول عند رحيله إن السَّاحة السَّياسيَّة افتقدت بموت الخاتم مُفكراً كانت في أمسِّ الحاجة إلى إسهاماته الفكريَّة في أكثر مراحلها اضطراباً. ولعلَّ من أكثر ما أوجعني إصرار الإخوة الشيوعيين، ليس فقط على رفض طلب قدَّمته جماعة الخاتم للانضمام إلى التجمُّع، بل اصطحاب الرَّفض بتهديد الحركة بأنَّ قبول تلك الجماعة في التجمُّع سيحمِل الشيوعيين على قُبُول مجموعة لام أكول، وكان ذلك في وقتٍ تقدَّم فيه لام بطلب لرئيس التجمع (الميرغني) للالتحاق بالتنظيم المُعارض بعد خلافه (أي خلاف لام) مع المُؤتمر الوطني. أيًّا كانت دواعي الحزب الشيوعي لقفل الطرق أمام ذلك المُفكر وحرمانه من الإسهام في عملٍ وطني عام، وفي أكثر مراحل الحياة السِّياسيَّة حرجاً، هو في حُسباننا عملٌ غير صالح وتغابُن غير كريم» (شذرات 2018، نفس المصدر، الجزء الثالث، ص 242).

بالرغم من ما بذلناه من جهود صادقة وثابرنا في الترويج والحوار حول مبادرة “لواء السُّودان الجَّديد”، إلا أننا لم نُوفق في مسعانا هذا، ولم يُقيَّض لورشة العمل المُزمعة بالانعقاد. تعثر وفشل المبادرة أحزنَ منصور كثيراً، ممَّا دفعه لتخصيص أكثر من ثماني صفحاتٍ في كتابه “قصة بلدين” لتقصِّي الأسباب والدوافع وراء هذا الفشل. فقد كان يعتبرها بمثابة الجسر بين الشمال والجنوب في سياق بناء سُودانٍ جديد، يختلف عن السُّودان السِّياسي الذي عرفناه منذ الاستقلال، وبالقطع يختلف عن ذلك الذي سعى نظام الجبهة لخلقه. ولهذا، في رأي منصور، ما أن فرغ زعيم الحركة من إرساء دعائمها في الجنوب، حتى «اتجه على المستوى الوطني إلى ثلاث جبهات: الاستمرار في الكفاح السياسي والنضال المُسلَّح ضدَّ نظام الجبهة، وتعزيز التجمُّع الوطني المُعارض كبديلٍ قويٍ وفاعل في الحُكم في الخُرطوم، واجتذاب العُقول للحوار حول مفهوم السُّودان الجديد».

*لواء السودان الجديد: لماذا؟

ثلاثة أسبابٍ حفَّزت جون قرنق لإعلان مبادرة “لواء السودان الجديد” كواحدٍ من وسائط التغيير السياسي والاجتماعي، ودعا لتنظيم منبرٍ لهذا الحوار. الدَّافع الأوَّل، هو إجراء حوار واسع حول الفكرة، وماهيَّتها، والأدوات المُتاحة لها، أو تلك التي ينبغي أن تُتاح لتحقيقها. وثمَّة سبب آخر لإنشاء اللواء: الرَّغبة في تكوين قوة محاربة في الشمال بالقُرب من مركز الحُكم، لتسريع عمليَّة الإنقاذ من “الإنقاذ”، وكان ذلك قبل بروز القيادة العسكريَّة المُوحَّدة للتجمُّع الوطني. وربَّما كان من العوامل الضَّاغطة لإنشاء ذلك الشق العسكري المُبرَّرة من بعض عناصر الجيش الشعبي: لماذا نُريقُ وحدنا الدِّماء من أجل بناء السودان الجديد؟!  ثالثاً، وربَّما الأهم، أن تكوين اللواء كان بمثابة تعميق لمفهوم السُّودان الجَّديد، فيرى منصور أن قرنق نادى بإعمال هذا المفهوم و”السُّودانويَّة” الجديدة وتطويرها، ليس فقط كسلاح أيديولوجي في الصِّراع من أجل البناء الوطني، وتعميق وحدة أقوامه، والاعتراف بثقافاتهم المُتنوِّعة، بل أيضاً لبثِّ الوعي بحضارات السُّودان القديمة واستبطان أمجاد الماضي. ويضيف منصور أنه: «في تعريفه لماضي السُّودان التاريخي، لم يتجه قرنق الأفريقي إلى ممالك غانا وبنين ومالي، وإنما ذهب إلى إسهام السُّودان الأفريقي القديم: مروي وكوش، في إثراء الحضارة الإنسانيَّة، وانعكاس ذلك على خلق السُّودان المعاصر. ذكر أيضاً أن ذلك التاريخ يتسع ليشمل عصر النوبة المسيحيَّة والممالك الإسلامية» (منصور خالد – السودان، أهوال الحرب وطموحات السَّلام: قصة بلدين، دار تراث، القاهرة، 2003).

أبدى د. منصور تحسُّره على أنَّ الأمور في السُّودان ليست بالسُّهولة التي يتوقعها المرء، حيث أنَّ مشروع “لواء السُّودان الجديد” قد مُنِيَ بالفشل، خاصة بين العناصر التي كان من المُفترض أن تنجذب طبيعياً نحوه. وهذه العناصر تشمل أيضاً، إلى حدٍ كبير، النُخبة السِّياسيَّة في الشمال التي كفرت بالسياسات القديمة واستقبحت البيئة السِّياسيَّة التي أنجبتها. ومع ذلك، يعزو منصور إحجام بعض المُثقفين الشماليين عن الاقتراب من “لواء السُّودان الجديد” لعدَّة عوامل. فأولاً، قد تتمثل أحد الأسباب في الإيحاءات العسكريَّة في كلمة “لواء”. فقد كانت المُجاهرة بمساندة حركة اتخذت من القوَّة وسيلة للإطاحة بنظام الحُكم، في تقدير البعض، نوعاً من الفتنة لم يكونوا بعد واثقين من رغبتهم في، أو قدرتهم على الاضطلاع بها. كما مارس نظام الإنقاذ ابتزازاً نفسياً على كُلِّ من سوَّلت له نفسه من المُعارضين الشماليين التعاوُن مع الحركة، ناهيك عن الانخراط في اللواء، والذي كان يُعدُّ إمَّا داعماً لقُوَّاتٍ مسيحيَّة تسعى إلى هزيمة الإسلام (البُعد الديني)، أو طابوراً خامساً ضدَّ الوطن (البُعد الوطني). ثاني أسباب النفور من لواء السُّودان، هو على حدِّ تعبير منصور: «الإحساس الذاتي بالتفوُّق الذي تحس به شريحة من القوى المُسيَّسة في القُوى الحديثة. هذه القُوى وقعت في حسرة من أمرها عندما جوبهت ببروز الفكرة من قائد جنوبي لتنظيم كان ينبغي أن يبقى، في أحسن الأحوال، حليفاً جنوبياً لها. في هذا، لا يختلف الوحدويون الشماليون الحداثيون عن الانفصاليين الجنوبيين الانغلاقيين. هؤُلاء أيضاً كانوا سيشعُرون بكثيرٍ من الرَّاحة لو أبقت الحركة على الأفكار التي خَبِرُوها واستكانوا لها طبيعة الصِّراع: الشمال الجنوب، العرب ضد الأفارقة، والمُسلمون ضدَّ غير المسلمين» (منصور 2003، نفس المصدر، ص 717).

ويُعيبُ منصور على تلك الجماعات الوحدويَّة التقدميَّة والرَّافضة للسياسات القديمة، وربَّما عنى بها الحزب الشيوعي، موقفها غير المنطقي تجاه حركةٍ أصبحت هي رأسُ الرُّمح في النضال ضدَّ الطُغيان المُعاصر، والضَّلال السياسي القديم. وذلك، بالرغم من أنه من المُؤكد لم تُبدِ الحركة رغبة في، كما لم تَبتغِ، أن يتصدَّر لواء السُّودان العمل الوطني على حساب أي قُوى وطنيَّة أخرى، أو يقفز فوق رُؤُوس القُوى السياسية مُجتمعة. فمنصور يجزم بأنَّ الحركة ليست بالغباء الذي تظن معه بأنها يمكن أن تستأثر بالسَّاحة السِّياسيَّة السُّودانيَّة كلها، في الوقت الذي لا تستأثر فيه سياسياً حتى بالجنوب. حقاً، لم تتردَّد الحركة الشعبيَّة منذ منتصف الثمانينات، من القرن الماضي، في الدُّخول في تحالفاتٍ عديدة مع القُوى السِّياسيَّة الشماليَّة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. فالحركة كانت تسعى لإسهامِ جميع السُّودانيين الذين تتفق رُؤاهم مع رؤاها في تطوير هذه الرُّؤى حتى تُصبح ملكيتها للجميع. يخلُصُ منصور، وفي حلقه غُصَّة، إلى أنَّ: «المسيرة المُتعثرة لأطروحة لواء السُّودان الجديد، بل التربُّص من جانب البعض حول ما ظلت تدعو له الحركة حول السُّودان الجَّديد، يكشف عن تواني العقل البشري عن قُبُول التغيير، وتردُّد البشر في قُبُول التخلي عن القيم والمفاهيم الموروثة.. هذا أمرٌ لا نتصامم عنه، ولكن يُخالجنا أسى كبير عندما نرى فتور النخب السياسيَّة الرائدة (أو التي كان ينبغي أن تكون) عن قُبُول الأفكار الجديدة، حتى وإن كانت هذه الأفكار هي السبيل العملي الوحيد لتحقيق ما ظلت هذه النُخب تقول أنها راغبة في تحقيقه، لا لسببٍ إلا الخَيْلاء الزائفة. هذا هو السُّودان بكُلِّ تعقيداته، ولا شكَّ في أنَّ أي شخص لا يُدرك تلك التعقيدات سيصل إلى حُكمٍ غريب، هُو أنَّ بعض أهل الشمال يُفضِّلون القهر على يد قائدٍ شمالي، على الانعتاق والحُريَّة على يد سياسي جنوبي. سأل فرانسيس دينق نفسه في خطابٍ ألقاه أمام ندوة حول الثقافات السُّودانيَّة، نظمها مركز الدراسات السُّودانيَّة بالقاهرة: هل نحن عُنصريُّون سُودانيون أم متطرِّفون وطنيون؟ ثم أجاب: نحن الاثنان معاً. يُؤسفُ هذا الكاتب (منصور) الاتفاق مع دينق على هذا الحُكم الذي يُعلقم الحلق». (منصور 2013، نفس المصدر، ص 722).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى