اقتصاد ما بعد السلام.. فرص التعافي والنمو!!

الخرطوم- جمعة عبد الله
تترقب البلاد مرحلة جديدة عنوانها التعافي عقب التوقيع النهائي على اتفاقية السلام بين الحكومة وحركات الكفاح المسلح بجوبا، وينظر للاتفاق على أنه أحد المطلوبات الرئيسية لإصلاح الاقتصاد المتدهور، بالنظر لما تشكله الحرب من استنزاف بشري ومادي مستمر، وشهدت عاصمة جنوب السودان “جوبا” مراسم توقيع السلام بين الحكومة والحركات المسلحة أمس، في اتفاق يرجى منه الكثير على صعيد إصلاح مسار الاقتصاد ضمن مطلوبات أخرى..
تفاؤل بالسلام
وكان مستشار رئيس الوزراء لشؤون السلام د. جمعة كندة، استبق التوقيع الفعلي ليشير إلى أن الاتفاق يمثل انتقالاً للبلاد من مرحلة اللا حرب واللا سلام التي كان يعيشها بعد سقوط النظام السابق إلى مرحلة بداية عملية السلام، وأضاف بأن الجهود ستتواصل لاكتمال عقد السلام الشامل بانضمام بقية حركات النضال المسلح المتوقع في الأيام القلائل القادمة.
أزمات اقتصادية
وخلال الأشهر التي تلت سقوط النظام السابق أحاطت الشكوك وعدم اليقين بما ستؤول إليه الأوضاع الاقتصادية بالبلاد، بسبب الوضع السياسي الضبابي وتأخر عملية السلام وضعف أداء حكومة الفترة الانتقالية، وأدى تأخر الوفاق السياسي لتنامي المخاوف من انزلاق اقتصاد السودان لهوة يصعب الخروج منها قريباً، بسبب استمرار عدم التوصل لتسوية سياسية تنهي أمد الخلاف بين الحكومة المركزية والحركات المسلحة.
وبشكل عام، لم يشهد الوضع الاقتصادي تحسناً بقدر ما تفاقمت مشكلاته، فبعد أكثر من عام من تغيير سياسي هو الأكبر من نوعه منذ 3 عقود، يواجه المواطنون صعوبات بالغة في توفير متطلبات المعيشة، كما تفاقمت الأزمات الاقتصادية التي شملت نقص الوقود وارتفاع التضخم وانفلات أسعار الصرف مع انقطاع مستمر للماء والكهرباء، وفي غضون ذلك واصل المواطنون الوقوف في طوابير للحصول على البنزين والنقود كما تباطأت أنشطة الأعمال مع ترقب وضوح اتجاه سياسة الاستيراد والنقد الأجنبي، تقول البنوك إنها لا تزال تفتقر للنقد الأجنبي اللازم لسداد التزامات وشيكة، ولا يزال الاقتصاد يرزح أيضًا تحت إرث الحكومة السابقة.
استنزاف مستمر
دلالة على أهمية السلام وعلاقته بالاقتصاد، يقول الخبير الاقتصادي د. عبد الله الرمادي، إن البلاد لم تتوقف فيها أصوات البندقية منذ أكثر من (60) عاماً، وأضاف الرمادي لـ(الصيحة)، بأن “الحرب هي الأكثر استنزافا للموارد”، وأشار إلى أن المؤسسة العسكرية السودانية ظلت في حالة تأهب واستعداد مستمرين طوال فترة (6) عقود، موضحاً أن ذلك الامر له تبعات اقتصادية وتكاليف باهظة.
وبناء على هذه المعطيات يوضح أن تحقيق السلام وإسكات صوت الحرب هو السبيل الأضمن للانطلاق صوب التنمية المستدامة والاتجاه نحو الإعمار بدلاً عن الحرب، وأبدى ترحيبه بالسلام.
خسائر الحرب
وبسبب الحرب لم تتمكن الحكومات السابقة من استغلال عدد من الموارد الاقتصادية ذات القيمة العالية، وكثير منها كان خارج سيطرة الأجهزة الحكومية بسبب خضوعها لمناطق الحركات المسلحة، وينطبق الأمر هنا على مربعات للتعدين عن الذهب بولاية جنوب كردفان لا تخضع لسيطرة الحكومة المركزية، كما أدى استمرار الحرب هناك لتدهور قطاع المراعي الطبيعية ونفوق أعداد كبيرة من الثروة الحيوانية، بالإضافة إلى فقد محميات طبيعية كانت تضم أنواعاً نادرة من الحياة البرية.
وقريباً من ذلك أدى اندلاع الحرب بولاية النيل الأزرق، لتوقف النشاط التعديني خاصة معدني الكروم والحديد اللذين يوجدان بالولاية بكميات وافرة، ومنذ العام 2011 توقف الإنتاج كلياً بسبب خضوع مناطق التعدين لنفوذ الحركات المسلحة، كما تتميز الولايتان بميزات هائلة في الزراعة والموارد الطبيعية، ويشكل إحلال السلام فرصة أمام الحكومة لإعادة استغلال هذه الموارد وإدخالها في دورة الاقتصاد القومي.
رهان على المستقبل
بدوره، يرى المحلل الاقتصادي د. طه حسين، صعوبة قراءة والتنبؤ بما ستؤول إليه الأمور قبل تحقق الاستقرار السياسي، وأشار إلى أن وجود حكومة مستقرة ومتفق عليها سياسياً ضرورة لازمة للتحسن الاقتصادي.
وقال حسين لـ(الصيحة): “مع أهمية إحلال السلام، إلا أن ثمة ضرورات وواجبات ينبغي على الحكومة عدم إغفالها”، مشيراً إلى أن أبرز المطلوبات الاقتصادية تشمل مواصلة جهود الحكومة لإزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية وتحرير حركة التحويلات المصرفية والسعي في البحث عن سوق للمنتجات السودانية، لاًن منتجاتنا كانت مُحاربة وتصدر كمواد خام قبل إعادة تصديرها بأسماء دول أخرى، فأدى ذلك لقلة تواجد المنتجات السودانية في السوق العالمي مع ضرورة السعي لإزالة الدين الخارجي.
مطلوبات سياسية
سياسياً.. تشكل العلاقات الدولية المتوازنة ووضوح الرؤية السياسية ورفع اسم السودان من قوائم الإرهاب لنتائج إيجابية على الاقتصاد بإزالة الصعوبات أمام حركة التعاملات المالية مع الصناديق ومؤسسات التمويل الدولية، كما ستؤدي إلى التخلص القيود التي تواجهها البلاد أمام قدرتها على جذب الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة، علاوة على تخوف مؤسسات التمويل من التعرض للعقوبات حال تعاملها مع دول مدرجة في قوائم الإرهاب.
وشكلت التحديات الاقتصادية، عصب الحراك الجماهيري الذي كًلّل بالتغيير، وكانت المطالب الاقتصادية والمعيشية هي السبب الرئيس في بروز وتنامي الأصوات الاحتجاجية، كما كان الاقتصاد هو المتأثر الأكبر بالإخفاقات السياسية وتبعات الحرب التي حدثت طوال الفترة الماضية، ووصول الأزمة لحدود عجزت فيها الحكومة عن معالجة قضايا شح السيولة التي ما تزال مستمرة، علاوة على تصاعد أسعار الصرف وما نتج عنه من تراجع احتياطي البنك المركزي من النقد الأجنبي اللازم للاستيراد.
وكبلت سياسات حكومية في السودان طوال العقود الثلاثة الماضية، القطاعات الاقتصادية، لحد خرجت فيه بعضها من دائرة الإنتاج، وتضاءلت مساهمة عدة قطاعات في الاقتصاد القومي، مع محاولات شكلية لإصلاح الوضع دون جدوى بسبب افتقارها للجدية والعلمية، وبعث التغيير في المشهد السياسي وما تبعه من تغييرات جذرية في السلطة الحاكمة بتكوين حكومة مدنية، الآمال مجدداً في إمكانية استنهاض اقتصاد الدولة التي صنفت ذات يوم مع دولتين أخريين بأنها “سلة غذاء العالم”.
فرص سانحة
ورغم واقع البلاد المتردي اقتصادياً.. تبدو الفرصة سانحة أمام الاقتصاد السوداني للتعافي والنمو، ويدعم تلك الفرضية وجود مقومات هائلة في عدد من القطاعات الاقتصادية، تحتاج لسياسات رشيدة وإدارة سليمة، وتبدو الحكومة الجديدة مدعوة بجد لنفض الغبار عن ثلاثة قطاعات اقتصادية، يأتي في صدارتها استخراج الذهب، والزراعة، والثروة الحيوانية، وهي قطاعات مرجو منها تحسين اقتصاد دولة عانت على مدى ثلاثة من عقود من عقبات عديدة، ذاتية وموضوعية.
في مجال التعدين، ينتج السودان 130 طناً من الذهب سنوياً بحسب أرقام الحكومة السابقة، لكن مختصين يقولون إن الإنتاج الحقيقي يتجاوز 200 طن، يُهرّب 70 بالمائة منه مما يفقد الخزينة العامة نحو 6 مليارات دولار سنوياً، وهو مبلغ كافٍ لسد العجز في الميزان التجاري.
ويتنامى تهريب الذهب في السودان سنوياً بسبب السياسات الحكومية التي كان يتبناها البنك المركزي، حيث يفضل المنتجون والمعدنون التقليديون بيع إنتاجهم لجهات غير رسمية تنشط بدورها في تهريبه، مع كون قطاع التعدين في السودان لا ينحصر في الذهب فقط، حيث توجد معادن أخرى بكميات هائلة لم يطلها الاستكشاف بعد، ومعادن أخرى توقف فيها الاستشكاف بسبب الحرب في ولاية النيل الأزرق، مثل الحديد والكروم والنحاس والرمال البيضاء والأحجار الكريمة.
ويتوفر القطاع الزراعي في السودان على مائتي مليون فدان صالحة للزراعة، 80% منها أرض بكر لم تُستغل، فيما لا يتجاوز حجم المُستغَل منها فعلياً 20 بالمائة.
ويقول مختصون إن المقومات الزراعية المتوفرة بالسودان، “كافية لسد حاجة كل الأسواق العربية من المحاصيل والخضروات” شريطة استغلالها بشكل جيد.
قبل استعراض المقومات الزراعية المتاحة تجدر الإشارة إلى أن أول موازنة وطنية عقب الاستقلال في 1957م اعتمدت كلياً على “محصول القطن” كمورد، وأوفت إيرادات صادر القطن بكل بنود الموازنة بل حققت فائضاً من الإيرادات تم تحويله للموازنة التالية.
يقول وزير الزراعة الأسبق بولاية نهر النيل بشير بساطي، إن إزالة القيود عن صغار المزارعين سيجعلهم قادرين على سد حاجة السوق المحلي من محاصيل الحبوب والخضروات، وتنفيذ مشروعات كبيرة للصادر.
وقال بساطي لـ(الصيحة)، إن القطاع الزراعي يجب أن يتصدر اهتمامات الحكومة خلال الفترة المقبلة، وحدد مطلوباته في: إعادة النظر في السياسات المنظمة للزراعة وإزالة القيود عن صغار المنتجين وتوفير التقاوي والتقانة الحديثة في عمليات الري والإرشاد الزراعي والحصاد، فضلا عن تطبيق برنامج سلاسل القيمة الذي يهتم بجميع مراحل الزراعة من الحقل وحتى التسويق.
أما الثروة الحيوانية فيتوفر للسودان، نحو “107” مليون رأس من الماشية في إحصاءات تقديرية، منها ما لا يقل عن 30 مليون رأس من الضأن، 20 ملايين رأس من الأبقار، مع مساحات شاسعة من المراعي الطبيعية وموارد المياه.
ورغم هذه المقومات ظلت الثروة الحيوانية في السودان قطاعاً هامشيًا في خطط الحكومات المتعاقبة، حيث تسيطر التقليدية على نمط تربية المواشي ولم تتجه الحكومات السابقة لإنشاء مزارع حديثة لتربية الماشية، وباستثناء مسلخ وحيد، تنعدم المسالخ الحديثة التي تساعد في تصدير اللحوم وفق المواصفات والاشتراطات الصحية العالمية، كما تفتقر البلاد للصناعات التحويلية التي يمكن الاستفادة من مشتقات الألبان والجلود التي تصدر كخام مما يفقدها القيمة  المضافة.
وتعزو خبيرة قطاع الثروة الحيوانية، د. نجوى آدم، لـ “الصيحة” تدهور القطاع للإهمال الحكومي وعدم توفير الموارد اللازمة للتطوير، موضحة أن التقليدية التي ما يزال عليها القطاع تفقد الدولة سنوياً موارد لا تقل عن 6 مليارات دولار تتمثل في صادرات الجلود واللحوم والمواشي الحية، وقالت أن تغيير هذا الواقع رهين بتغيير السياسات التي تكبل المنتجين وتوفير التقانات الحديثة لهم خاصة في الأرياف وتوفير اعتمادات محددة لاستجلاب تقانات حديثة تساعد في زيادة الإنتاج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى