محمدمحمد خير يكتب : العلمانية رحمة!

 

هذا العنوان ليس لي، إنه اقتطاف من سياسي ألماني من أصل سوداني اسمه علي الحاج محمد، صدع به ذات حوار تلفزيوني من قناة (أمدرمان) الفضائية حتى اندلعت الدهشة واشتعلت الحيرة واستبان التلون على محيا مقدم البرنامج صديقنا الأستاذ بكري المدني.

هذه الرحمة التي وصف بها علي الحاج العلمانية أعتبرها أكثر المحطات صدقاً وشفافية في كل مواقفه السياسية منذ أن رفع الأذان بجامعة الخرطوم في الخمسينيات إلى أن قرظ العلمانية في قناة أمدرمان في لحظة إسقاط باطني كثيف، متحررًا من الثنائية والفصام البشع الذي ظل يرسم صورة السياسي السوداني الذي تعتمد حياته السياسية على (الجمع والالتقاط).

هذه الصيحة النادرة التي أطلقها علي الحاج في لحظة سعي غاضب لتمزيق فكرته المركزية على الهواء مباشرة حتى شحب صوت بكري المدني تستحق وقفة تأمل طويل على ملل انبثق من تجربة مديدة في ميادين السياسة والدعوة التي تبيح خنق الآخر وملاشاته وقذفه خارج حدود الكرة الأرضية ثم مصالحته والاعتراف بفكرته دون رسم إطار التعايش المشترك .

لماذا يكون السياسي باطشاً حين يحكم باسم الأيديلوجيا ويكون رحيماً حين يُزاح عن السلطة لحد البطش بالأيديلوجيا نفسها?!!!

لماذا حين يفقد السلطة يجن جنونه وتتبعثر ملابسه ويندلع فيه اللهب ويشعله ويصهره جلداً إلى جلد?

ما نوع تلك الغشاوة التي تكسو أعين السياسيين حين يكونون في السلطة باسم الإسلام والماركسية والوحدة العربية، وما نوع التركيبة التي تجعلهم يذمون معتقداتهم السابقة ثم يستدعونها لاحقاً?

يقال إن أعظم السلاطين هم الذين يجالسون العلماء، غير أن العلماء يقولون إن أسوأ العلماء هم أولئك الذين يجالسون السلاطين! وفي تلك قال مظفر النواب:

وأرى خواذيقا صنعن على مقاسات الملوك

وما في ملك وخاذوق ملامه!

لم يكن وصف علي الحاج للعلمانية بالرحمة إلا بعد مفاصلة الإسلاميين وتبني كليهما نفس الفكرة ليس بالإخلاص لها بل بالمزايدة عليها وحين يزايد معتنق الفكرة على الفكرة ذاتها يتحول محمولها إلى النقيض.

يعرف كل الإسلاميين أن العلمانية لا تعني الكفر ولهم في معانيها نوابض واستطاعات والإسلاميون أنفسهم خرجوا من رحم العلمانية وتوطدت دعوتهم في رحابها وتسلقوا على خاصرتها الهشة، لكنهم بعثوا روحها من جديد بتجربتهم في الحكم فعادت خطاطيفها بإلحاح بعد أن أصبحت لها منابر ومستقرات ودول جوار واجتهادات مفكرين إسلاميين ونماذج هجين مثل تركيا وتونس التي يناقش برلمانها تراكيب النبيذ وصارت لها هجرات من ديار المسلمين لبقاع النصاري طلباً للأمان وحكم القانون والجنسية المزدوجة وكم في تلك البقاع من (كيزان) فرنجة!

صيحة علي الحاج نص ثر يقبل التأويل المظلل، ففيه اعتراف بأفضال العلمانية الأخلاقية وارتكازها الإنساني وفيوضها القانونية وملاذ المستجير الآمن من بطش إخوته في الله وإخوته كرامازوف، ومن هنا وأنا علي بعد آلاف الأميال حيث أطلب الشفاء من إحدى منصات العلمانية أوصي بوصفي كندياً من نطفة سودانية الزميل الألماني علي الحاج بمخاطبة طيفه بأن (يخلو  بالم من العلمانية) وأن يلحف أيضًا إذا تأبّوا (بخلوها مستورة).

إن أصدق عبارة نطقت بها أيها البافاري النبيل في كل حياتك السياسية هي عبارة العلمانية رحمة. رحمك الله.

وخصني بالحب فيك. الآن أستطيع أن أقول إذا سألني الناس عنك أن علي الحاج مفكر ألماني معاصر.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى