العلمانية في السياق السياسي السوداني: العودة إلى القانون الجنائي المدني!

 

 

الواثق كمير يكتب :

 

الحلقة (3)

 

إلى قوى التغيير: لماذا لا نُلغي قوانين سبتمبر؟

 

موافقة الحركة على بقاء واستمرار قوانين الشريعة في الشمال بحسب نصوص اتفاقية السلام عرضها لانتقادات لاذعة من البعض الذي رأى في قبول الحركة هذا تنكراً صريحاً لموقفها المبدئي المعلن بشأن العلاقة بين الدين والدولة وإلغاء قوانين سبتمبر. ويعكس هذا الاستنتاج قراءة خاطئة لنتائج المفاوضات وعجزاً عن فهم منطقها وأحكامها، حيث أن اتفاقية السلام الشامل لا تمثل برنامج الحركة أو مشروعها، بل هي تسوية سياسية تم التوصل لها عن طريق التفاوض. لذلك، ليس هناك طرف في موقف يؤهله لفرض شروطه بالكامل، فالحركة الشعبية (والتجمع الوطني الديمقراطي لنفس السبب) لم تهزم الحكومة، وبالتالي لم تحقق الشرط الضروري لتمكينها من إلغاء القوانين السائدة والتوجه لبناء نظام سياسي جديد بناءاً على مقررات مؤتمر القضايا المصيرية. ففي ظروف المفاوضات كان أمام الحركة خياران فقط. الخيار الأول أن تتمسك وتصّر على فصل الدين عن الدولة في السودان ككل، وبالتالي إدخال المفاوضات في مأزق قد يؤدي إلى انهيارها. ومثل هذا الموقف لا يرضي قاعدة الحركة في الجنوب (خصوصاً الانفصاليين) أو الوسطاء، على حدٍ سواء. والأخطر أنه يعود بالبلاد مرةً أخرى إلى حرب مدّمرة. والطريق الثاني كان يتمثل في البحث عن حلول عملية لإنهاء الحرب، دون مساومة في مواطنة غير المسلمين ليس فقط في الجنوب وإنما في كل السودان. واختارت الحركة الطريق الثاني من خلال تقديم عدة مقترحات شملت الاتفاق على عاصمة قومية لا تحكمها قوانين الشريعة أو إقامة منطقة إدارية لا تخضع لقوانين دينية. فإذا لم تجد هذه المقترحات مكاناً في النتائج النهائية للمفاوضات فليس من العدل أن نحمّل الحركة مسئولية ذلك. والسؤال الذي يجب توجيهه للمنتقدين والمتشككين هو: ماذا فعلوا هم وكل القوى السياسية والاجتماعية في الشمال لدفع الأجندة العلمانية إلى الأمام؟ ولو على سبيل مساندة موقف الحركة التفاوضي حول الدين والدولة.

كنت قد نشرتُ مقالاً قبل ثلاثة عشر عاماً، في أغسطس 2007، قلت فيه أن العلاقة بين الدين والسياسة تمثل أمّ القضايا التي تستوجب النقد والتحليل وتستدعي ابتداع النهج الملائم لمعالجتها. وكان المرء يتوقع من المعارضين لبعض جوانب اتفاقية السلام الشامل، إثارة الحوار الوطني والجاد بشأنها، خصوصاً من طرف حلفاء الحركة السابقين في التجمع الوطني (الأمة، الاتحادي الديمقراطي، والحزب الشيوعي) والذين مهروا إعلان أسمرا حول الدين والدولة بتوقيعاتهم، أم هل تنصلوا عن اتفاقهم ذلك واعتبروه قد سقط بتقادم الزمن؟ أو ربما اكتفوا بصب جام غضبهم على “ثنائية الاتفاقية” و”قسمة السلطة”، بينما غضوا الطرف عن قضية جوهرية لا تستقيم وحدة السودان بدون إيجاد معالجة جذرية لها، وكأنما الحل “المؤقت” الذي ارتضاه الطرفان المتفاوضان قد جبّ هذه الثنائية، أو صادف هوىً في نفوسهم ولسان حالهم يقول: “الحمد لله الذى خلصنا من اتفاق لم نتحمس له أصلا”؟ كما يمكن الاستهداء بتجارب الآخرين في الاتفاق على صيغة تكفل المساواة في حقوق المواطنة، وفي الوقوف أمام القضاء، بغض النظر عن المعتقد الديني للفرد.

إن توقيع حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي لإعلان كوكادام واتفاقية الميرغني-قرنق ومقررات أسمرا للقضايا المصيرية بتوافقهما على إلغاء قوانين سبتمبر، هو بمثابة عودة إلى الإدراك العميق لزعيمي أكبر طائفتين دينيتين في السودان للمخاطر العملية من تديين السياسة، منذ أواخر خمسينات القرن الماضي. فنتيجة لذلك التحدي، أحجم السيد على الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي عن الضغط على الأحزاب الموالية لهما لإنشاء دولة ودستور إسلاميين. وهكذا، فإنها ليست مصادفة أن كلاً من الزعيمين الإسلاميين البارزين و”اللذين يُفترض أن تسيطر النزعة الدينية على رؤيتهما السياسية، ظلا يعهدان بالحكم دوماً إلى ساسة شبه علمانيين. بالإضافة إلى هذا، ظلت دساتير السودان في فترة ما بعد الاستقلال (بما في ذلك عهد عبود) دساتير شبه علمانية. ولا ريب أن السيدين كانا يتمتعان، إلى جانب الدهاء السياسي، بالحكمة التي مكنتهما من التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي على المستويين الأيديولوجي والعملي، ومن ثمًّ تركا إدارة السياسة العملية لساسة دنيويين” (منصور خالد، أهوال الحرب وطموحات السلام: قصة بلدين، 2003، ص 1009، دار تراث، القاهرة). حقاً، لقد كان السيد المهدي يُدركُ جيداً أن القضية التي نذر نفسه لها، قضية “السودان للسودانيين”، لن يُكتب لها النجاح من خلال منظور ديني للسياسة، ناهيك عن رؤية تتصل بتوجه ديني محدد. ذلك، بينما تبنى السيد الميرغني تجمعات سياسية كانت، بطبيعة تكوينها، أكثر ميلاً لقبول الفصل بين الدين والدولة. ولذلك، ظل الحزب السياسي الذي يدعمه الميرغني موقعاً تقليدياً لصفوة المثقفين الداعين لهذا الفصل في المراكز الحضرية، ولغير المسلمين الشماليين، خاصة الأقباط. ولعل هذا يفسر خطوة السيد محمد عثمان الميرغني الشجاعة في نوفمبر 1988، وفي توقيع حزبه في يناير 2020، على “إعلان دعم قضايا السلام والوحدة الطوعية” في جوبا، مع الحركة الشعبية شمال، تحت قيادة الفريق عبد العزيز الحلو. فإعلان جوبا المُشترك هو بمثابة تثبيت للقرار الخاص بالعلاقة بين الدين والدولة، في “مؤتمر أسمرا”، والقائم على مبدأ عدم استغلال الدين في السياسة، وذلك بإقرار العديد من التدابير الدستورية التي تكفل المساواة الكاملة بين المواطنين تأسيساً على حق المواطنة. وعلى حزب الأمة، الموّقع على إعلان نيروبي واتفاق شُقدُوم وقرار مؤتمر القضايا المصيرية حول الدين والسياسة أن يُعلن موقفاً واضحاً، لا يقف فقط عند حد تحويل الأمر بِرُمته إلى المؤتمر الدستوري، فما هكذا قامت هذه الاتفاقات التي أقرت إلغاء القوانين ومن ثمًّ الذهاب للمؤتمر. أما الحزب الشيوعي السوداني، أول المنادين بالدولة العلمانية في التاريخ السياسي للسودان، فقد كان من الطبيعي أن يكون هو المبادر بإلغاء هذه القوانين. أم هل اكتفى الحزب بتوقيع سكرتارية تجمع المهنيين، المحسوبة على الحزب، مع بيان جوبا السياسي مع الحركة الشعبية شمال، تحت قيادة الفريق عبد العزيز الحلو؟

المؤتمر الدستوري وحقوق المواطنة

من جهة أخرى، يبدو أن أغلبية قوى الحرية والتغيير المدنية، والتي عبر عنها وفد الحكومة الانتقالية في مفاوضات السلام في جوبا، ترى أن موضوع الدين والدولة، بما في ذلك القوانين، يُمثل قضية قومية ينبغي ترحيل الحوار حولها إلى مكانها الطبيعي في المؤتمر الدستوري المُزمع. وفي رسالتي المنشورة إلى السيد رئيس مجلس الوزراء، في 3 سبتمبر 2019، ذكرت له أن تحدي السلام، القضية العالقة أبداً، “أضحى الآن هذه المرة أكثر تعقيداً كونه جاء مرادفاً لعملية تحول سياسي واجتماعي عميق لم يتوفر لثورتي أكتوبر وأبريل، وذلك على أنقاض نظام استبدادي دام ثلاثين عاماً، تبدلت فيه الأوضاع الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة في أعقاب ترتيبات اتفاقية السلام الشامل التي أفضت إلى انقسام البلاد. وهكذا، فإن ما تبع انفصال الجنوب من ثورات مسلحة في جنوب البلاد وغربها وشرقها (الجنوب الجديد) يفرض نفس الأجندة التي تضمنتها الاتفاقية من قضايا تتصل بإعادة هيكلة الدولة السودانية بما في ذلك ترتيبات أمنية شاملة نحو بناء جيش وطني كامل الدسم، والوحدة الطوعية وفصل الدين عن الدولة. ما سيتم طرحه على طاولة مفاوضات السلام هي نفس قضايا المؤتمر الدستوري التي ظل مطلباً لقوى المقاومة المسلحة تتمسك بقيامه منذ أن دعا له جون قرنق في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي” (الواثق كمير، إلى رئيس الوزراء: كلمة المرور للعبور!، سودانايل، 5 سبتمبر 2019).

وللمفارقة، توافقت رؤية الحكومة الانتقالية مع موقف حركات الكفاح المسلح، المنضوية تحت لواء الجبهة الثورية (الجبهتان)، على تأجيل النظر في موضوع الدين والدولة، والتشريعات المضمنة في القانون الجنائي لعام 1991. لم يستثن هذا الاتفاق الحركة الشعبية شمال، تحت قيادة الفريق مالك عقار، التى كان إلغاء قوانين سبتمبر على رأس قائمة أجندة الحركة الأُم، منذ أن فرضها الرئيس جعفر نميري رغم أنف الشعب السوداني في سبتمبر 1983. ومع ذلك، أزعُم أن قيادات وقواعد هذه الحركات تقف قلباً وقالباً مع إلغاء هذه القوانين، ولا أجد تفسيراً لغياب طلب الإلغاء هذا عن أجندة التفاوض إلا الغيرة السياسية والتوجس من إضافة رصيد للخصم السياسي الذي يضع هذا المطلب كشرط للمشاركة في العملية السياسية. وهذا، في رأيي، إن صحًّ، لأمرٍّ مُحزنٍّ. وكما تعرضت له بالسرد، في الصفحات السابقة من المقال، فأصلاً فكرة المؤتمر الدستوري منذ أن نادى بها جون قرنق في الربع الأول من عام 1985، وتبناها تجمع المعارضة في كوكادام ولاحقاً في أسمرا، كانت تهدف إلى البت في، وحسم كافة القضايا القومية الدستورية، ومن بينها العلاقة بين الدين والدولة. ولكن، إطلاقاً لم تكن مسألة إلغاء قوانين سبتمبر ضمن تلك القضايا، بعد أن تم حسمها في كل محطات اتفاقيات قوى التجمع الوطني الديمقراطي، من جهة، وأصبحت بنداً أساساً في أجندة التفاوض للحركة الشعبية، قادت إلى اتفاق الدولة الواحدة بنظامين، وإلى انفصال الجنوب في نهاية المطاف، من جهة أخرى. قضية الدين والدولة، فيما يتعلق بقوانين سبتمبر، ضمن قضايا جوهرية أخرى، يجب حسمها الآن ولا يمكن أن تُرحل للمؤتمر الدستوري، الذي ينبغي أن يكون بمثابة تتويج للجهد الدي يُبذل قبل انعقاده.

 

وبجانب وضع العصي في دواليب عملية السلام، فإن الإبقاء على هذه القوانين يتناقض مع الوثيقة الدستورية الانتقالية، القانون الأعلى للبلاد، كما أنها تتعارض مع مفهومي “المدنية” و”حقوق المواطنة”، الشعاران الرئيسان للثورة والثوار. ويتضح هذا التناقض بصورة سافرة: في “ديباجة” الوثيقة التي تعترف بالتنوع وتركز على المواطنة أساساً للحقوق والواجبات، وتعلي قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، والمادة 4 (الخاصة بطبيعة الدولة والسيادة)، والمادة 8 (2) (مهام الفترة الانتقالية) والخاصة بإلغاء كل القوانين التي تميز بين للمواطنين، ونص المادة 47 من وثيقة الحقوق (المساواة أمام القانون دون تمييز)، والمادة 42 من الوثيقة والتي تعتبر كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان، والمُصادق عليها من قبل جمهورية السودان، جزءاً لا يتجزأ من الوثيقة، والمادة 51 التي تحظر التعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية اللإنسانية او المُهينة أو الحاطة بالكرامة الإنسانية. ففي دولة المواطنة التي تنادي بها الثورة لا يجوز أن يحرم الانتماء الديني، بغض النظر عن الأغلبية والأقلية، المواطن من إمكانية المنافسة بمطلق الحرية وعلى قدم المساواة، على كل المواقع السيادية العليا فى البلاد وبدون أي قيود دستورية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى