العلمانية في السياق السياسي السوداني: العودة إلى القانون الجنائي المدني!

 الواثق كمير يكتب:

 

الحلقة (1)

 

الصراع حول الدين والسياسة: السياق التاريخي

أوشكت مفاوضات “سلام جوبا” بين الحكومة الإنتقالية والجبهة الثورية (جبهتان ثوريتان) على التوصل إلى وثيقة اتفاق نهائية، بحسب الإفادات المتواترة من الطرفين، بينما ظلت مفاوضات الحكومة مع الحركة الشعبية شمال، تحت قيادة الفريق عبد العزيز الحلو، متعثرة يلازمها الجمود. فهذه المحادثات توقفت عند محطتها الأولى في أكتوبر 2019، حينما تم اتفاق مبدئي بحيث يتم أولاً التفاوُض والوصول إلى اتفاقٍ حول القضايا السياسيَّة، ومن ثمَّ الانتقال إلى الشأن الإنساني، على أن تأتي قضيَّة الترتيبات الأمنيَّة كآخر بند في أجندة التفاوُض. لم يتمكن الطرفان من الشروع في التفاوض على القضايا السياسية بسبب خلاف جوهري على مضمون “اتفاق المباديء” الذي سيحكم مسار العملية التفاوضية، إذ تصر الحركة الشعبية على إدراج موضوعي علمانية الدولة وتقرير المصير في صميم أجندة التفاوض، وهذا ما ترفضه الحكومة الانتقالية. وبذلك تجمدت المفاوضات ولم تتقدم خطوة تُذكر، مع تركز الجدل حول مفهومي الدولة الدينية والدولة العلمانية/المدنية، من جهة، وبين مفهومي الدولة العلمانية والدولة المدنية من جهة أخري.

وما أن وضعت الحركة الشعبية شمال هذا المطلب على طاولة التفاوض، حتى انبرى المراقبون وكُتاب الرأي والناشطون السياسيون للتعبير عن آرائهم المتباينة حول هذه المفاهيم، وانقسمت وجهات النظر حتى وسط المناوئين للدولة الدينية بين من يُفضلُّ تعبير “العلمانية” ومن يميل إلى وصف الدولة بـ “المدنية”. حقاً، لقد رصدت عشرات المقالات المبثوثة في الصحف الإلكترونية والأسافير ومنصات التواصل الاجتماعي، احتوت على تحليلات رصينة ومستشهدة بالتجارب المختلفة، وتسجيلات فيديو وأوديو، وحملت عناويناً جاذبة ومثيرة. ومن ضمن مواضيع هذه المساجلات: “الموقف من العلمانية”، “العلمانية ضرورة للخروج من مأزق خلط الدين بالسياسة”، “المدنية والعلمانية في السودان”، “هل العلمانية حالة غياب للدين؟”، “هل من الممكن أن يتوافق الإسلام مع العلمانية؟”، “العلمانية الضامن للمساواة والعدالة”، “العلمانية وتقرير المصير ورؤية السودان الجديد”، “العلمانية فعل تنويري وليست شعاراً سياسياً”، “حقيقة الصراع بين العلمانية “الصادقة” والعلمانية “الكاذبة”، “العلمانية أو سماية الدولة”، “يسألونك عن العلمانية”، “توطين العلمانية”، “في فض الاشتباك بين دعاة دمج والفصل بين الدين والدولة”، “الدين والسياسة في الدساتير السودانية”. أضافت هذه المساهمات إلى الرصيد الفكري والأدب السياسي السوداني حول طبيعة العلاقة بين الدين والدولة، كم أثارت حوار ساخن بين الرؤى المختلفة لقضايا الدين والسياسة التي ستظل موضوعاً للجدال، فأمر تأسيس الدولة هو بمثابة عملية طويلة ومعقدة وليس بحدث عابر.

 

ومع ذلك، لن أجاري أو أُباري هذه الحوارات، ولا أرغب في الخوض في جدل فكري أو فقهي، قد لا أمتلك ناصيته، خاصة وأنه، في رأيي، جدال قد يُخلقُّ تشويهاً ويسبب غموضاً في الفهم الصحيح للمفاهيم والمصطلحات المستخدمة، ولا يرسو بنا على بر آمن. وأحسب ان الحوار في ضوء هذه الثنائية، بين الدينية والعلمانية/ المدنية لن يكون مجدياً او منتجاً، خاصة وان مثل هذه المفاهيم والتداول حولها غير مألوفا ومهضوم لسواد السودانيين، مما يُملي علينا استخدام لغة يفهمها المواطن العادي. لذلك، قصدي في هذا المقال أن أُحاول تفكيك مفهوم العلمانية/المدنية وتشريح معناه على أرض الواقع وفي سياق وطبيعة الصراع السياسي المحتدم حوله، حتى نتوصل إلى حلٍّ يحقق السلام العادل ويُعززُّ مباديء دولة المواطنة الحقيقية. بمعنى آخر، أهدف إلى تحرير الخلاف بين المطالبين بالدولة العلمانية، أو المدنية، وبين الرافضين والمناوئين للفكرة بحسبانها لإبعاد الدين عن الحياة والطعن في الشريعة الإسلامية. فإبتداء، فالخلاف في تاريخنا المعاصر، خاصة بعد سبتمبر1983، حول علاقة الدين بالسياسة/الدولة لم يكن على رؤى نظرية أو تصورات مفاهيمية، بل كان على سن التشريعات القانونية المستمدة من دين يعينه، في هذه الحالة التشريعات الإسلامية أو قوانين سبتمبر. وذلك، في بلد تتعدد فيه الأديان والثقافات، ولا يتفق فيه المسلمون على مذهب واحد. لذلك، لا أميل إلى استخدام مفهومي الدولة العلمانية والدولة المدنية، بل أفضل أن أوصف الدولة التي يتطلع إليها السودانيون ب “دولة المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات المتساوية لكل المواطنين، بغض النظر عن الدين أو النوع أو العرق”.

 

لذلك، تتلخص أطروحتي في هذا المقال في أن العلمانية في السياق السياسي السوداني تُعني إلغاء قوانين سبتمبر 1983 المدمجة في قوانين 1991، وأزعم أنه لن يكتمل نصاب السلام العادل ودولة المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات المتساوية والمساواة أمام القانون إلا بإلغاء هذه التشريعات والإحتكام ّإلى القانون المدني الذي أرست قواعده تجربة ربع قرن من الإرث التشريعي والقانوني (1956-1983). فجدل المفاهيم بين علمانية ودينية لن ينتهي إلى يوم يبعثون، ونقرة واحدة على محرك قوقل تنبئك بذلك، فلنحرر الخلاف واقعيا بالتركيز، ونضع أصابعنا على قضية التشريعات!

إن أمر إلغاء تشريعات سبتمبر ليس بمطلب الحركة الشعبية ‏”الموحدة”، بعد سبتمبر 1983، أو الحركة الشعبية شمال في فبراير 2019، إنما هو أهم مطلوبات دولة المواطنة، التي يتساوى مواطنوها في الحقوق والواجبات، بل وهو أمر أقرته انتفاضة مارس/أبريل 1985، ومن ثم حسمته كل القوى السياسية الشمالية، ما عدا بالطبع الجبهة الإسلامية القومية يومذاك، في كوكادام في عام 1985، وفي اتفاقية الميرغني-قرنق 1988، وفي أسمرا 1996. سأتعرض في هذا المقال إلى حيثيات الصراع السياسي حول هذه التشريعات، التي تمت حولها حوارات عميقة ونقاشات مطولة، أفضت في نهاية المطاف إلى هذا التوافق على إلغائها في إطار مبادئ أساسية تحكم علاقة الدين بالدولة والسياسة. وفي رأيي، أنّ المُلزم سياسياً والواجب أخلاقياً على كل القوى السياسية والمجتمعية، بما فيهم أطياف الإسلاميين، خاصة تلك التي وقعت على قرار أسمرا للقضايا المصيرية، إدارة حوارٍ جاد حول هذه القضية المفصلية، بحثاً عن إجابة على سؤالين متلازمين: لماذا نبقي على قوانين سبتمبر؟ ولماذا  ينبغي إلغائها؟

 كيف، ومن سنَّ قوانين سبتمبر؟

 

العلمانية فُرضت على الخطاب الوطني منذ 1968 عندما رفعت بعض الأحزاب الشمالية شعار الدستور الإسلامي. فلم تكن القضية مطروحة عند الاستقلال، ولم تكن جزءاً من الخطاب السياسي الجنوبي، ولم يرد حوارُّ بشأنها في محاداثات أديس أباباب للسلام في 1972. فالقضية، إذن، قضية سياسية أقحمها على الدين من أقحمها، وكان له فيها تخريجات، كما سأُبينُّ في هذا المقال. فبعد أن تضعضت التحالفات السياسية للرئيس نميري، لجأ إلى حيلة أخيرة لعلها تمِدُّ عُمرَّ حُكمهِ وتعزز من سلطاته المطلقة، فنصب نفسه إماماً للمسلمين ووليُّ على أمرهم، ولم يعدم المبايعين من أهل الحل والعقد، وحاشية سلطانه. ومن بين هؤلاء جوزيف لاقو، الجنوبي المسيحي، الذي وصفه د. منصور بأنه “أدى البيعة لأمير المؤمنين قبل أن يخطو الخطوة الأولى التي ينبغي أن يخطوها قبل المبايعة، ألا وهي الدخول في الإسلام” (منصور خالد، شذرات من، وهوامش على سيرة ذاتية، الجزء الثالث، ص 39، 2018، دار رؤية، القاهرة) . عهد نميري بمهمة صياغة التشريعات الإسلامية لثلاثة من “المشعبذين والمشعوذين القانونيين” ممن كانوا يحيطون به حينذاك: عوض الجيد والنيل أبو قرون، وبدرية سليمان التي اُشتُهِرت ب “بدرية الترزية” تلميحاً لما أظهرته من قدرات فائقة على تطويع القانون لرغائب الحكام. ومن الطرائف أن من قام بصياغة قوانين الشريعة الإسلامية، عوض الجيد وأبو قرون، قد بلغا من الشعوذة القانونية ما ذهب بهما إلى الإيحاء للرئيس نميري بأن يقوم عند دخول مكتبه بتحية المقاعد الخالية، ويُسلم عليها تسليماً لأن الملائكة، في زعمهما، تجلس عليها. لم يقف الأمرُّ عند تدمير الاقتصاد، بأسلمة البنوك وإلغاء الضرائب واستبدالها بالزكاة، بل تبعه تدمير للقانون والدستور، وذلك بإلغاء أهم إصلاح قانوني تم منذ مطلع الاستقلال، ومن بينها قوانين مثل قوانين الوكالة، البيوع، والعقود، التي أشرف عليها جهابذة القانونيين المخضرمين، وشملت مراجعات في القانون الجنائي وقوانين الإجراءات. ويضيف د. منصور، بحد تعبيره: “ومن المؤسي أن نميري عندما عهد بتلك المهمة لحديثي العهد بالقانون هؤلاء، حرِصَّ على أن يقصي من تلك المهمة حتى الأقربين إليه من رجال القانون القادرين: حسن الترابي، والرشيد الطاهر، رغم مبايعتهما له ولياً للأمر. ذلك الإقصاء، فيما نُقدِّر، كان مقصوداً حتى لا يكون لأي منهما فضل في إقامة الخلافة الإسلامية التي وهبا عمريهما لتحقيقها” (نفس المصدر، ص41). هذه الحقائق تؤكد أن الأخوان المُسلمين ليس هم من سنّ وأصدر قوانين سبتمبر، ولكنهم لم يعارضوها بالطبع، بل وأبقوا عليها حتى انشطرت البلاد. وبالرغم من أن الشيخ حسن الترابي لم تكن له يدُّ في صياغة التشريعات، إلا أنه في رأي د. منصور “قد أقدم على المبايعة، وهو يروي على جمهور المبايعين حديثاً مشكوكاً في صحته يقول “سيقوم على رأس كل مئة (أي مئة عام) من يجدد لهذه الأمة دينها….وهكذا “تآزرت فتاوي المقتحمين على الدين، وتسييس العلماء الحكماء له لتُصيب إسلام أهل السودان في مقتل” (نفس المصدر، ص 41). 

 

مقاومة قوانين سبتمبر

 

أجج فرض هذه القوانين نار الحرب الدائرة في جنوب البلاد، إذ اعتبرتها الحركة الشعبية لتحرير السودان خرقاً جوهرياً لاتفاقية أديس أبابا في سلسة قرارات نميري الفردية الرامية إلى تقويض الاتفاقية تماماً، وهو ما وقع بالفعل. ومن جهة أخرى، كان نظام نميري يلفظ أنفاسه الأخيرة وعلى وشك الانهيار حتى أجهزت عليه انتفاضة مارس/أبريل 1985، التي كانت إزالة قوانين سبتمبر على رأس أولويات مطالبها الأربعة. اتفقت كل القوى السياسية على أن أي طرف لا يملك أن يُملي واقعاً على الآخرين دون إحتكام للإرادة الشعبية، لأن قوانين سبتمبر، وقوانين الجبهة الإسلامية القومية المنسوبة إلى الإسلام، لم تصدر بإرادة شعبية وبذلك، أضحى إلغائها هو البند الرئيس في أجندة للحركة الشعبية، وعظمة النزاع في كافة جولات حواراتها مع قوى الانتفاضة، وفي مفاوضاتها مع الحكومة الانتقالية، عقب سقوط نظام نميري. وعليه، فقد توافقت القوى السياسية والنقابية (ما عدا الاتحادي الديمقراطي يومذاك) على إلغاء قوانين سبتمبر في أول لقاء جمع قوى الحكومة الانتقالية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، في كوكادام، إثيوبيا، صدر بيانه الختامي في 21 مارس 1986.

 

ومع ذلك، فشلت حُكومة الفترة الانتقاليَّة في إلغاء قوانين سبتمبر، ليس بحسب ميثاق الانتفاضة فحسْب، بل حتى بعد التوافُق على هذا الإلغاء في كوكادام، وإن كان ذلك في نهايات الفترة الانتقاليَّة. ومن المُدهش أن تنجح الأحزاب والقُوى النقابيَّة والمُجتمعيَّة التي تمثل الحاضنة السياسيَّة لحُكومة الانتفاضة في التجاوُب مع الحركة الشعبيَّة في قضيَّة القوانين، بينما تعجزُ الحُكومة التي تُمثلهم عن مثل هذا التجاوُب. لكن، يبدو أنَّ الإحساس بقُرب الموعد المضروب للانتخابات، دفع الأحزاب لترك موضوع الإلغاء للمجلس العسكري الانتقالي، المُسيطر على المشهد وعلى سُلطة التشريع، والذي كان يخشى من ابتزاز الإسلاميين ووصمِهِم له بمُعاداة شرع الله. وتحاشياً لاتخاذ أي قراراتٍ صعبة، فضَّل كُلٌ من المجلس العسكري والحُكومة الانتقاليَّة ترحيل هذه المُهمَّة إلى الحُكومة المُنتخبة. وجود المجلس العسكري في السُّلطة، والإبقاء على قوانين نميري، لم تترُك للحركة الشعبيَّة مجالاً للانخراط في العمليَّة السِّياسيَّة التي خلقتها الانتفاضة.

[email protected]

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى