أبا أنس ..بريدك يعج بالرسائل

بقلم : خالد الصادق البصير

الموت لا يفاجئ الرجل العاقل، إنه دائما مستعد للذهاب إليه.
لقد علمتنا الأيام لعبة الفقد ولم تعلمنا لعبة البدائل ولكنها علمتنا فن ادارة الأزمات والمحن والصبر على الإنفاق المظلمه والأحزان.
هكذا هي الحياة حضور وغياب ومزيج من البؤس والنعيم والدمع والابتسام، لقد فاض نبع عثمان فينا فطوبى لرحيله وغيابه وماقطعنا سوى خطى إلى خواء الأمكنه، رحل وتركنا نبحث عن اليقين، وأحرق مراكب العودة، وكنا بإنتظاره ليكتب لنا ما عودنا عليه شئيا يقال ولا يقال.
الكتابه عن عثمان هي المعيار الحقيقي لجحيم الكتابه، لأن الذهول يدهشك، من أي جانب تتحدث عنه فهو مجموعه مكونات تضاهي بعضها بعضاً القاً وتوهجاً وبريقاً ولأن حياته ثرة وغنية بالجمال والخير والحب ونشأته كانت في بئية تضج بالتواضع الجم والسماحة والحكمة والخير والوقار والمروءة والعطاء والسخاء، لذا تشرب ورضع من ذاك الثدي.
عثمان ظل علامة مضئية بعلمه وثقافته الرفيعه وحسه المرهف وصدره الرحب ودماثة خلقه، فهو شفوي العبارة، يخلو أسلوبه من التعقيدات اللفظية والمجازات المصطنعة، سلس العبارة متنزهاً عن التعمية والألغاز، واضح وجلي، الحديث يأتيه طائعاً سلسلاً وسهلًا.
كان خفيف الروح محبباً إلى القلوب وأديباً ظريفاً حاضر الجواب، حلو النادرة، عفيف اليد واللسان لايتكلم إلا صدقا، وحكيماً في أحلك المواقف وأشدها تعقيداً، سخياً وودوداً مع الجميع خاصة الأطفال، فهو يحبهم ويحبونه بمختلف سحناتهم وألوانهم.
حياته كانت مثمرة ووجدانه متألق ورحباً فياضاً ورقراقاً كمياة النيل، وكان كالملح في الطعام، ومرنا في الأخذ والعطاء وقلبه يتوهج بالضياء.
والمتأمل لعثمان يجده في وضوح وتدفق وانسياب وجمال وإلى ماينطق به من سعه خيال ووفرة ثقافة واطلاع، متمكن من أساليب اللغة ونظم الكلام ودقة الملاحظه والذكاء.
لقد أعطانا وعلمنا الكثير وكنا نلجأ إليه في صغائر وكبائر حوائجنا لنتجاوز بافكاره الثرة النيرة عقباتنا وأزماتنا، إنه حالة نادرة وفريدة لأنه همزة الوصل مابين أجيالنا التي تعيش في الشتات.
أما عن شأنه الصحفي فكان يتوجه إلى عموم الناس متمكنناً من أدواته مقنعاً في أساليبه سواء في إختيار الموضوع الذي يكتب فيه لأنه يثير اهتمام الناس، لا إنه يريد أن يثير اهتمامهم به.
وطريقة عرضه تميزت بأسلوب سلس يعرف صاحبه بأن الكتابه هي فن التفهيم ويحرص على أن يفهم لكي يُفهم عنه، فضلاً عن اصطحابه لذاته في كتاباته ومقالاته ويعيش متفتح النفس بحيث ينبض قلبه مع الناس والحياة بكل مافيها من عمق ومعنى. وكان يؤمن بما هو عملي ومؤثر ويدافع عن الحق ولا يخشى فيه لومة لائم ولا إيمانه وقناعاته تتعارض مع الخط العام للصحافة، لذا فضل أن يكون مستقلاً وانه احتفظ بمسافه مابينه وبين المظاهر والظواهر والإرتزاق، ويسجل حبه وايمانه بشجاعة النفس ومواجهة التعسف والظلم عندما يكتب ويعلن اراءه بجرأة نادرة، لذا انزوى ليمنح نفسه رحابة الحرية وعدم تكبيل قلمه بسلاسل الانتماءات. كان خير من يحاور وخير من يستمع وخير من يكتب ويحلل ويترجم. وإنه صاحب عفوية عذبه وشفافية مسرفة.
صمت عثمان وصمت البيان وعدنا إلى المسافات المقفرة والصمت يترجم لغة الأوجاع. وتركنا نرتمي في بوابات الحزن والكآبة وستصبح الاستعادة مؤلمة ومستحيلة للتجمع الذي سيكون عثمان غائبا عنه.
فما علينا إلا التأمل العميق وعزاؤنا أن نتلمس ذكراه العطرة الجميلة.
حين ارتحل عثمان ارتحلنا إلى غابة الجدب والأمسيات الخوالي التي كنا نقضيها معاً.. عثمان وأنس وشخصي في ركن من أركان أم درمان يضج بالثقافة والفنون والشعراء والمبدعين وليالي الأنس والسمر.
كان عثمان يهتم باثنين قدمه وقلمه، الأولى لمواصله أرحامه في كل الظروف، والثانية منافحاً بقلمه للدفاع عن الحق لأن الحق اسم من أسماء الله.
ستظل متقداً في قلبي كما كنت ثائراً لم تهدأ إلا بالموت، وسنلتقيك عند سدرة المنتهي.. إذا شاء المولي.
يونيو 2020
مفجوعون…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى