البرهان وبعثة حمدوك

لم يكن السيد عمر قمر الدين إسماعيل وزير الدولة بالخارجية والناطق الرسمي بما يسمى ب (اللجنة الوطنية العليا للتعامل مع الأمم المتحدة) يقول الحقيقة كاملة حين أصدر بيانه يوم ٢٣ مايو ٢٠٢٠م زاعماً أن “التعديلات المطلوبة على مسودة مشروع القرار الاممي ليتوافق مع خطاب حكومة السودان المقدم للأمم المتحدة بتاريخ ٢٧ فبراير ٢٠٢٠م” قد تم إجراؤها، وإن القرار سيركز على مساعدات فنية “لدعم جهود السلام، والمساعدة على حشد الدعم للمؤتمر الاقتصادي، والمساعدة على العودة الطوعية للاجئين والنازحين، إضافة الى المساعدة في التعداد السكاني وقيام الانتخابات العامة بنهاية الفترة الانتقالية” وكان يخبئ الحقيقة عمداً وهو يؤكد أن “برنامج المساعدات القادمة لا يتضمن أي مكون عسكري او شرطي”.
***
إن الأمم المتحدة ليست بيت خبرة مجاني لمساعدة الشعوب الفقيرة على (عبور) فترات الانتقال وإنما هي آلية من آليات النظام الدولي لتحقيق مصالح الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن بشكل أول، ثم مصالح الدول الممولة لمشروعاتها بشكل أخص إذ لا يمكن للولايات المتحدة مثلاً أن تقدم التمويل اللازم لقوات يوناميد بينما يمنح السودان حق التنقيب عن المعادن في دارفور للصين. الشيء الثاني أن القرار وصياغاته، كما تنبئ قرائن الأحوال، ما زال رهن الصياغة التي ينبغي أن تخرج معقدة بما يكفي لأن تكون حمالة أوجه ليتم تفسيرها في ساعات الاختلاف وفقاً لمعايير القوة على الأرض. ليست هناك محكمة عليا لتفسير قرارات الأمم المتحدة والأقوى فقط هو الذي يملك حق التفسير.
أما بالنسبة للمكون العسكري للبعثة فهو موجود وقائم من خلال قوات يوناميد والتي صدرت ترتيبات منفصلة لتمديد بقائها، ثم إنهاء وجودها وسحبها بأجل محدد لن يحين قريباً لأن مهمتها لن تكتمل. سيحين موعد سحبها وسيتم التجديد لها مرة أخرى بسبب هشاشة -يمكن صناعتها- في وضع حماية المدنيين، أو بسبب عدم اكتمال عودة النازحين المحليين، أو اللاجئين في الخارج، أو غير ذلك من الحيل التي سيتم وضع السند اللازم لها من خلال ثغرات في صياغة القرار الذي سيصدر عن مجلس الأمن والحكومة تصفق.
إن الفكرة الرئيسية هي في مسئولية البعثة الجديدة عن كافة أنشطة الأمم المتحدة في جميع أراضي جمهورية السودان، وهذا يعني ضمناً المسئولية عن يوناميد والقوة الشرطية المرابطة في منطقة أبيي. هل هناك أي تدابير لإنشاء قوة للتدخل السريع؟ هل هناك أي تدابير للتنسيق مع بعثات وقوات الأمم المتحدة في الإقليم؟ هل هناك تدابير لمساعدة (ومساعدة هنا مفردة ماكرة) قوات الشرطة المدنية؟ هل هناك تدابير معينة لمناطق جبال النوبة والنيل الأزرق؟ هل هناك برنامج للمساعدات الغذائية والإنسانية بحيث يقوم بتوفير الغذاء، والدواء، والكساء، ومعدات التنقل، وأجهزة الإتصال للقوى العسكرية المتمردة تحت ستار إغاثة المدنيين في المناطق خارج سلطة الحكومة؟ هل تمتلك حكومة السودان قاعدة بيانات ومعلومات عن كيف ساهمت برامج الأمم المتحدة الإغاثية في إطالة أمد الحروب في السودان منذ السبعينات؟ وكم من تلك المواد الغذائية قد ذهب لتمويل القوى المسلحة المعارضة؟
هذه أسئلة قد تحمل في طياتها أجوبتها لكننا ننشرها للحوار العام.
***
لقد كتب قليلون بالفعل خلال الفترة الماضية رافضين ومحذرين من بعثة الأمم المتحدة التي ورط فيها السودان رئيس وزراء عبد الله حمدوك دون تنسيق مع بقية مكونات الحكومة الانتقالية بطريقة ماكرة جعلت المسرح السياسي يتقبل فكرتها، كقدر لا مفر منه، ثم يحاول لاحقاً تلطيف هذا القدر الدولي الذي يحسبونه نافذاً.
لقد كتب قليلون لأسباب عديدة منها ضعف استجابة السلطات للرأي العام، وانشغالها بصراعاتها الداخلية، ومحاولة كل طرف وضع العراقيل أمام الآخر والسيطرة على أكبر مجموعة من أحجار الشطرنج، لكننا سنواصل الكتابة بدافع من المسئولية الوطنية، وحسن الظن بالناس، ولتبرئة ذمتنا أمام التأريخ إذ نخشى ما نخشى أن يأتي يوم قريب فنصرخ في آذانكم: ألم نقل لكم؟ ما قلنا ليكم؟
لقد وضع حمدوك الأجندة للتداول العام وبدلاً من رفض ترويكا الحكم (الجيش والدعم السريع والمدنيين) لخطاب حمدوك برمته ابتداء، وتقريعه على التصرف المنفرد، وإعادة الأمر كله إلى نصابه الصحيح، تم التداول في الفكرة. هب أن أحد أفراد أسرة ما طلب من أسرة أخرى القدوم للإقامة معهم في منزلهم لمدة عام دون التشاور مع والديه وإخوانه وأهله في المنزل. أمام الأسرة خيار واحد وهو رفض حضور الأسرة المدعوة رفضاً باتاً. أما إذا بدأت العائلة المفاوضات من نقطة: حسناً يا ابننا فقد دعوت هذه الأسرة للإقامة في بيتنا لكننا نشترط ألا يأتوا ببهائمهم وكلابهم، وألا يتدخلوا في خصوصياتنا، وألا يقيموا حفلات راقصة مزعجة، وألا يقوموا بدعوة عائلات أخرى للإقامة في منزلنا فهذا يعني أن خطة الإبن الداعي قد نجحت، وأنه سيشكل في وقت قريب أغلبية مع الأسرة القادمة، وإن العائلة صاحبة المنزل قد خسرته يوم وافقت أصلاً على التفاوض من النقطة الثانية. إذا كان هناك من يرغب في رؤية كيف ستدخل بعثة الأمم المتحدة وتتصرف في بلادنا فعليه بمراجعة سيرة الغرباء في رواية (عصافير آخر أيام الخريف) للروائي المبدع أحمد حمد الملك.
***
يوم ٢٦ مايو الماضي، صدر عن إعلام مجلس السيادة بيان صحفي يقول إن الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس قد اتفق مع مساعد وزير الخارجية الامريكية للشؤون الافريقية تيبور ناغي ومع المبعوث الامريكي الخاص للسودان دونالد خلال اتصال هاتفي “على انهاء أمد بعثة اليوناميد في اكتوبر المقبل، ولا مجال للتجديد لها، وان مهام البعثة الأممية الجديدة ستكون وفق الرؤية الوطنية التي تضمنها خطاب السودان المرسل للأمم المتحدة في ٢٧ فبراير الماضي”.
***
لا بأس من قصة قصيرة للغاية فنحن نعلم ضيق الجنرالات والحكام عموماً بالحكايات لكن ضرب الأمثال من حسن الحجة.
كانت رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير سيدة متزمتة وكانت كثيراً ما تضيق بالمثقفين ومجادلاتهم وأرائهم بمن فيهم هنري كيسنجر نفسه، وكانت لا تخفي ازدراءها لشهاداته الجامعية الرفيعة، وتتهمه بأنه يهودي كاره لذاته. حين أبدى مرة رأيه في شأن إسرائيلي علقت بحسم بأنه ليس هناك خبير في السياسة الأمريكية أفضل من كيسنجر، لكن حين يتعلق الأمر بإسرائيل فإن لديها شهادة دكتوراه فيها. التقى بها مرة بعد حرب أكتوبر فسألته: لماذا لم تتصل بنا أيام المفاوضات؟ وحين رد عليها بأن السوفييت قد اخترقوا اتصالاته سألته فوراً: وكيف كنت تتصل برئيسك؟
لا علينا، لكن مائير الغليظة لم تترك كيسنجر يكمل حكايته مرة حين أبلغها بأن الرئيس بريجنيف وعده بأنه سيتم تبادل جميع الأسرى فور التوقيع على وقف إطلاق النار إذ سألته: وعلى ماذا أيضاً اتفقت مع بريجنيف دون كتابة؟
الإتفاقيات الشفاهية لا قيمة لها في السياسة الدولية، والأمريكيون ليست لديهم (كلمة رجال) ليتم ربطهم بها. في العلاقات الدولية (الراجل بيربطوه من إتفاقه المكتوب والموقع عليه بواسطة الشهود) فقط ثم بعد ذلك تأتي القوة، وليس هناك ما يسمى بالإتفاق عبر الهاتف على الإطلاق. سيتم طرد تيبور ناغي ودونالد بوث ومايك بومبيو نفسه ولن تجد تعهداتهم مصرفاً دولياً واحداً يقبلها.
الأمريكيون لديهم سجل موثق في وزارة الخارجية السودانية عن نقض العقود، ونكث العهود المكتوبة والمعلنة أمام العالم كله فما بالك بمكالمة هاتفية مفرداتها منتقاة بعناية بحيث تعني عدة أشياء كلما أخرجت عن سياق ووضعت في سياق.
خير من يمثل وجهة نظر العلاقات الدولية في التعهدات غير المكتوبة قول صمويل قولدوين “إن الإتفاق الشفاهي لا يسوى قيمة الورقة المكتوب عليها”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى