فيردالونا أو الغزلية الإيطالية

 *ظل غارثيا ماركيز وفياً لمحبة صوفيا لورين قبل وبعد أن كتب لصحيفته من روما عن المنافسة بينها وجميلة عصرها جينا لولوبريجيدا قائلاً ” إن صوفيا لورين في أدائها لدورها المحترم كصوفيا لورين فريدة ويتعذر التفوق عليها”.*

 

 

*أول فيلم مثلته لورين بإسمها الفني الجديد بعد أن غيرته من صوفيا لازارو الذي عرفت به في بداياتها لبست فيه زي أهل شرق السودان وكانت أحداث الفيلم تدور في البحر الأحمر*

 

*من حق هذا الجيل أن يحكي لأحفاده بمرح: لقد عشنا عصر كلاوديا كاردينالي وصوفيا لورين وجينا لولوبريجيدا ورولا جبريل وخلاسية أسمرا وجارتنا في مدينة الكهرباء وأختها*

 

*حين اجتاح الإسرائيليون لبنان في العام ١٩٨٢م ودخلت القوات المتعددة الجنسيات جمع وزير الدفاع السوري زعماء المقاومة اللبنانية وقال لهم افعلوا ما شئتم بالقوات الأمريكية أو البريطانية أو غيرها ولكني لا أريد لجندي إيطالي واحد أن يجرح لئلا تذرف جينا دمعة واحدة، وعلمت لولوبريجيدا بالأمر وظهرت على التلفزيون الإيطالي وشكرت طلاس*

 

 

*في العاصمة الإرترية أسمرا كنا شباباً نسعد بإرتياد المقاهي الإيطالية الفسيحة ونأكل سندوتشات الجبن (الباني والفورمانجو) ونستمع الى اللغة المموسقة المغناة: أللورا، غراسي ميل، سي، تشياو، كومي ستاي، مي ديسبياشي، وستكون محظوظاً كصاحبنا إذا قالت لك إحدى الجميلات: مي مانكي*

 

 

 

هذا مقال للتضامن وبذل المحبة للشعب الإيطالي العظيم بمناسبة محنة الكورونا التي اجتاحت العالم وقسمت حياة هذا الجيل المعاصر منذ الآن الى قسمين يؤرخ بهما وهما فترة ما قبل الوباء وعصر ما بعد الجائحة، ومحاولة للشكر على المستشفى الإيطالي والعون في مجالات الصحة والتعليم وآخر منحة إيطالية للسودان بمبلغ ٧٠ مليون يورو أعلنها الدكتور فابريزيو  لوباسو السفير الإيطالي السابق الذي تعلم في جامعاتنا شيئاً ودرس فيها أشياء. عاش بين السودانيين بمحبة وغادر أرضهم بمحبة أوفر. أملي كبير في أن يُقرأ هذا المقال كنص متجاوز للسيرة فبعض الأحداث ملونة لتشوش على انعكاس الضوء على أصحابها الذين يفترض أن يبقوا في العتمة كشيء عزيز وسرمدي. سينتصر العالم المفعم بالأمل وسيعود البهاء لقمر العالم الأخضر!

***

بدأت قصتي مع إيطاليا مع حكايات الجدات عن الحرب العالمية الثانية وكيف أنهن كن يمتنعن عن اشعال النيران في المساء وفق تعليمات السلطات الاستعمارية تفادياً لقصف الطيران في الليل. كانت الحكايات تمتد للحديث عن كيف أن قبة مسجد السيد الحسن أبو جلابية قد قاومت بالكرامات القصف في كسلا، وكيف أن الجنود حين قدموا جماعة جماعة وصوبوا بنادقهم نحو القبة وقف أمامهم أحد الخلفاء بصدره العاري وهو يطلب منهم في غضب أن يطلقوا رصاصهم عليه قبل أن يوجهوه نحو المسجد، وحين وجه الجنود المنفعلون نيرانهم نحو صدره كانت معجزة جديدة تأخذ مكانها في ذاكرة الشرق إذ تحول الرصاص إلى ماء.. كانت البنادق تخر ماء حتى جثا العساكر كل على ركبتيه أو فر هارباً. الحكايات كانت تحتوي على أغنيات بالعربية والبداوييت ولغة البني عامر والمعني واحد: الإنجليز حاربوا الطليان!

في سنوات سيزداد معين الحكايات وسيرقص جيلنا في صباه على صوت الفنان حسين الهمشري، المغني الطوكراوي البارع: الله لي الليمون سقايتو علي يا حاج أنا ويشتد الغناء: موسوليني يا طلياني ويا هتلر الألماني/ لو تضرب السوداني/ تطلع قرش براني..من جيبي أنا! طيارة جاتنا تحوم/ شايلة القنايل كوم/ جات تضرب الخرطوم/ ضربت حمار كلتوم .. ست اللبن. يا لها من أيام كان الغناء يشتد والإيقاع يتعالى وقد يدخل الفنان الطوكراوي المرح شلنكح فيشعل الساحة بالرقص والغناء قبل أن يسلمه الهمشري المايك والمسرح، لكن الجمهور يستزيدهما فيغنيان معاً: موسوليني يا صفاية/ طيارتك العميايا/ جات تضرب الحلفايا/ ضربت تلاتة هناية.. وراء العشش.

إيطاليا لا تغيب عن شرق السودان ولا عن العالم. في حلويات الأطفال كنت تجد المعلومات البهية مخبأة عن برج بيزا المائل وعجائب الدنيا، وفي المدرسة تقرأ في حصة المكتبة عن تاجر البندقية ويحدثك المدرس عن مدينة تحتفظ ببيوتها في الماء وأطفال يتنقلون بين البيت والمدرسة بالجندول. وستدرك حين تنصقل ذائقتك الموسيقية كيف أن عبد الكريم الكابلي ومحمد عبد الوهاب كانا على حق حين أضافا لتراثنا الغنائي العربي ألحاناً غير مسبوقة وهما يغنيان رائعة الشاعر علي محمود طه المهندس التي تغزل فيها بفينيسيا وفارسوفيا وضفتي النيل. من لم يقرأ الجندول كاملة مرات ومرات فهو يعيش خاسراً إحدى أجمل عطور الروح التي صنعت بالعربية في القرن العشرين.. بين كأس يتشهى الكرْم خمره/ وحبيب يتمنى الكأس ثغره/ التقت عيني به أول مره/ فعرفت الحب من أول نظره.

وحين تشب قليلاً تقدم لك فرق الكوميديا استكتشاتها المحببة عن زيارة القروي إلى إيطاليا وكيف أنه عاد مفعماً فما تبادل مع أحد حديثاً إلا وكانت إيطاليا في القلب منه. إذا قلت “الليلة كتاحة شديدة” رد عليك: هي دي كتاحة؟ الكتاحة في إيطاليا ثم حدثك عن الزهور التي تأتيك طائرة بعطرها ونداها حين تهب الكتاحة هناك. وإذا قلت “أريد أن أرمي النفايات” رد عليك بلازمته: هي دي نفايات؟ النفايات في إيطاليا ثم حدثك عن أكوام المعلبات والتلفزيونات وأجهزة المسجل الملقاة في أكوام النفايات الإيطالية.

إيطاليا دائماً في الخاطر. سنكبر قليلاً ثم نترفع على مجلات الصبيان وماجد ونقرأ علناً ألغاز الشياطين ال١٣ وحكايات المغامرون الخمسة، وسنتنافس على حب لوزة ونوسة، ثم نقرأ سراً مجلات الموعد والشبكة. لن تجد من يتبادل معك هذه المجلات في العلن فهي بضاعة نادرة وفي الغالب تكون المجلة مجلدة بجلاد الكراسات الذهبي (من اخترعه بالمناسبة وأين ذهب الآن؟) وربما كتب عليه جغرافيا الصف الثاني امعاناً في التمويه! إذا كان والدك متزمتاً أو سلفياً ففي الغالب أنك ستنال عقاباً يليق بالفارق بينك وبينه في التفكير وبما يعادل شعوره بالمرارة والخزي وخيبة الأمل، وإذا كان والدك ليبرالياً فستنال عبارات قاسية تسيء إليك وتبقى في أذنك بأكثر من آلام صديقك ابن المتزمت.

إذا كنت تؤمن بأن عليك ألا تعرض مكتسباتك القليلة للخطر، فستضع هذه الممنوعات في الغالب- كما فعلت أناـ في مكان سري خارج حقيبتك وستداري أنشطتك السرية هذه وراء تميزك في المدرسة وإشادة المدرسين كلما لقوا والدك في الطريق العام. هذه البراعة في مداراة نشاطك هذا ستنفعك حين تخبئ التدخين وغيره من أسرارك التي تكبر معك يوماً بيوم.

الشبكة والموعد كانت مفاتيحنا لأن العالم الحقيقي هو وراء الحدود وأن الحياة هي في مكان آخر بعبارة ميلان كونديرا. باسم الجسر سيضحكك في اجاباته الساخرة لكنك ستكتم أنفاسك وأنت تقرأ قصة الشبكة المصورة المنقولة عن فيلم رومانسي قديم منذ الخمسينيات (عرفنا هذا لاحقاً). يا إلهي! كلاوديا كاردينالي!

كانت الشبكة غالية كما إنك لا تستطيع شراءها من مكتبة قريتك المحلية لأنك تستحي من صاحب المكتبة ولا تستطيع أن تكذب بأن أحد الكبار قد أرسلك لشرائها لأن شراء مثل هذه الأشياء قد يلوث سمعتهم. الحظ الباهر سيذهب بك مرة إلى المدينة الكبيرة حيث الكهرباء وبنات الجيران الأكبر سناً يقرأنها في المنزل أمام أمهاتهن ويستعدن حكاياتها. كان هذا الفتح هو بداية الصداقة الزاهية بيني وبين إيطاليا.

تلك الإجازة السعيدة في المدينة الكبيرة ذات الكهرباء كانت علامة في حياة الفتى الصغير. حين يتأخر عن زيارة بيت الجيران كانت الصبية التي تزعم أنها تحبه لا تتحدث إليه وتتجاهله أمام إخواتها وحين يصبح لا سبيل إلا إلى تبادل الحكايا كانت تخاطبه غاضبة ومتسائلة عن سبب غيابه بالأمس “ولا عايز تتعزز؟ عامل فيها فرانكو كاسباري يعني؟” الصبايا كن مغرمات أيضاً بالنجم الإيطالي والأمهات مغرمات بالصلصة الإيطالية والشيخ العجوز يقول إن طبيخ نساء العرب أجمل لأن لونه أحمر بفعل الصلصة اللذيذة.

حكايات الإجازة السعيدة لم تنته لكن كلاوديا كاردينالي أفلتت من فرانكو كاسباري وهو دون السادسة عشرة وتزوجت، والأصدقاء المشتركون ما انفكوا يحدثونه اليوم أن بنتها اللامعة في العاصمة الغربية تستعيد جمال أمها في كل مرحلة مرت بها.

***

لسنا وحدنا الذين أحببنا أيطاليا والطليان. في العاصمة الإرترية أسمرا كنا شباباً مغرمين بالإستماع الى مسامرات بعض الإرتريين من كبار السن باللغة الإيطالية. كنا نرتاد مقاهيهم الفسيحة ونأكل سندوتشات الجبن (الباني والفورمانجو) ونستمع الى اللغة المموسقة المغناة: أللورا، غراسي ميل، سي، تشياو، كومي ستاي، مي ديسبياشي، وستكون محظوظاً كصاحبنا إذا قالت لك إحدى الجميلات: مي مانكي!

صديقنا الأكثر ثراء وقع في حب (كلاوديا كاردينالي) تخصه وكانت خليطاً من أم إيطالية وأب إرتري. كان سعيداً بالحياة كلها ومغرماً ب(الحنفص) والتي تعني في اللغة التغرينية شيئاً أقرب إلى الخلاسية!

سافرت من أسمرا ثم عدت ووجدت الحب ملتهباً والفتاة الجميلة لا ترغب في الزواج من الشاب. قالت له إنها تحبه لكنها لا تريد الزواج الآن وإنها مشغولة بوظيفتها ومستقبلها وحلمها في الهجرة، وهو كان يريد أن يكون وحده عالمها ومحط النظر. تعقدت الأمور وتباعد الصديقان وارتضى المغرم كلمات الشاعر المغمور اضرب جذورك في عتيق الخمر/ لا وطناً ترجي/ لا حبيبة تشتهيك ولا عيال، ثم رتب الأصدقاء المشتركون لقاء للمصالحة في مقهى أحد الفنادق.

قال الراوي إن الصب لم ينم الليلة الماضية وأنه قضى النهار يضرب جذوره كما اتفق حتى يجد في نفسه الشجاعة ليقول لها أنه لم يعد يحبها وأنه موافق على أن يظلا صديقين إلى الأبد.  حين جاءت متأخرة صافحها بشكل رسمي باليدين فقط ودونما عناق الأشهر الماضية المشحون بالعواطف. كانت تحبه وتعطف عليه وتشعر بأزمته وكان يحبها مثلما أحب مصطفى سعيد مسز روبنسون بطريقة مشوهة تبحث عن إطار رسمي للحب أكثر من تركه ليقودهما إلى النهاية السعيدة. أطلق أحدهم طرفة جميلة كسراً للجمود فضحكت كلاوديا، ألم نتفق على هذا الإسم المستعار؟ ثم ضربت بيدها الطاولة فسقط كوبها وزجاجة الميرندا على البلاط واندلق العصير على الأرض والحقيبة الأنيقة.

دون تفكير نزع الصب الشال الذي كان يتأنق به ومسح الأرض به ثم أصر على مسح حقيبة الحبيبة المشرقة وتنظيفها والخلاسية الفرعاء تضع يدها على فمها مندهشة على ذات النحو الذي تضع به الفنانات الفائزات بالجوائز العالمية. حين انتهى من فعله الجسور قررت الخلاسية إنهاء الجلسة وهي دامعة ثم لم يلتق الاثنان حتى الآن بعد أن نجحت الجغرافيا في وضع آلاف الأميال بينهما. أتمنى ألا يقرأ أحدهما هذا المقال.

***

إيطاليا ليست فقط برج بيزا والفاتيكان وباولو روسي وربيرتو باجيو وروبرتو كافالي وبيرلسكوني والمافيا، بل هي عالم متكامل من البهاء والبهاء والأمل. نحن نستحي أن تضار إيطاليا على هذا النحو أمامنا دون أن نتمكن من فعل شيء. حب إيطاليا يمتد من نيوزيلندا إلى أمريكا التي أخذت اسمها من أمريكو فاسبوتشي. من استمع إلى الفيديو الذي تفخر فيه بآبائها وتقول للعالم بالإيطالية المليحة: أولئك آبائي فجئني بمثلهم/ إذا جمعتنا يا (عالم اليوم) المجامع، سيعرف كم هي الحضارة الإنسانية مدينة لذلك البلد المحبوب.

وفي أمريكا الجنوبية هناك محبون! اعترض شاب كولمبي خجول للغاية ولم يبلغ العشرين من عمره طفلة في التاسعة من عمرها تشبه الممثلة الجميلة صوفيا لورين ثم قال لها في تصميم أنه سيصير شخصاً مشهوراً وأنه سيتزوجها حين تكبر ثم غادر المدينة. غادر الشاب المعدم القرية إلى العاصمة ثم إلى أوروبا وعمل بالصحافة وأصاب نجاحاً كبيراً في صحافة التحقيقات، وعاش لزمن في روما تعلم فيها كتابة السيناريو والتداول ببعض الإيطالية وزين ذكرياته -كأفضل ما يكون – لكنه بقي على حبه الخالد لصوفيا لورين. حين كبر في السن وكان يرتاد المطاعم الراقية كان يتلكأ في باب الدخول حتى يرى الزبائن الجالسين ثم يختار طاولة مواجهة لأقرب الزبونات شبهاً بصوفيا لورين. زوجته التي كبرت معه ولم تعد إبنة الصيدلي ذات التسعة أعوام والضفائر كبرت معه وكانت تقول له بحب وتسامح حين تكتشف أنه لم يلتقط بنظره شبيهة صوفيا لورين: هذا المقعد يناسبك، وكان يجلس ممتناً لزوجته الجميلة والرفيقة والرقيقة.

في روما أقام الصحفي الشاب برفقة مغن من مواطنيه اسمه رافائيل ريبيرو سيلفا وكانا في أوقات فراغهما يتنزهان بدراجة نارية يتفرجان فيها على الصبايا الجميلات في العاصمة حتى تنسدل أستار الليل. ذات يوم كان الصحفي الشاب ينام القيلولة فأيقظه صوت طرق خجول على الباب وحين نظر رأى فتاة غاية في الجمال عارية تماماً، ومستحمة للتو، ومعطرة ومدهونة الجسد كله ببدرة التلك، ثم قالت في حياء “بونا سيرا، لقد أرسلني المغني”. لم يبلغنا البروفيسور جيرالد مارتن في كتابه الضخم الذي يقارب ال٨٠٠ صفحة عما فعل غابرييل غارثيا ماركيز بعدئذ لكن غابو ظل على وفائه لصوفيا لورين وكتب لصحيفته من روما عن المنافسة بين لورين وجميلة عصرها جينا لولوبريجيدا قائلاً ” إن صوفيا لورين في أدائها لدورها المحترم كصوفيا لورين فريدة ويتعذر التفوق عليها”.

لست على يقين من خياراتي هنا فالوقوف في صف ماركيز يروق لي وأول فيلم مثلته لورين بإسمها الفني الجديد الذي اشتهرت به لبست فيه زي أهل شرق السودان/ أهلي وكانت أحداث الفيلم تدور في البحر الأحمر في افريقيا لكن جينا لولوبريجيدا أيضاً علامة شامخة في تاريخ الجمال.  من حق هذا الجيل أن يحكي لأحفاده بمرح: لقد عشنا عصر كلاوديا كاردينالي وصوفيا لورين وجينا لولوبريجيدا ورولا جبريل والخلاسية التي حدثتكم عنها وجارتنا في مدينة الكهرباء وأختها التي تستحق كتابة منفردة.

سيعود ماركيز الخجول إلى كولمبيا وسيتزوج مرسيدس شبيهة لورين لكن غريمه سيصنع التاريخ ولن يتزوج من لولوبريجيدا. ستتداول الصحف قصة الغرام الملوكي بين العماد أول مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري الشهير ولولوبريجيدا إبان الحرب اللبنانية وسيعلم المهتمون أن الضابط السوري المثقف والذكي والفقير كان مغرماً بلولوبريجيدا منذ شبابه الأول. طلب أبوفراس الزواج من ١٧ شابة سورية جميلة وتم رفضه من قبلهن أو عائلاتهن جميعاً بسبب فقره أو لأسباب أخرى وحين ساد وصار رئيساً لأركان الجيش أقام حفلاً في منزله دعا إليه النسوة ال١٧ وأزواجهن إلى حفل في نادي الشرق دون أن يعرف الأزواج كيف تم اختيارهم لحضور الحفل مع الجنرال المهيب. كان طلاس ينتصر لنفسه على طريقته ويريد أن يقول للسيدات إنني نجحت وأنني تزوجت سيدة أجمل منكن (قال هذا عن أم فراس).

كان طلاس يراسل بريجيدا منذ شبابه بلا كلل. يرسل لها خطاباته العطرة وكان يحتفظ بألبوم ضخم يضم صورها التي تقع تحت يديه في الصحف والمجلات. كانت يكتب لها بالفرنسية وفق ما روى (البيان الإماراتية ١ يناير ١٩٩٨م) وحين صار جنرالاً ورئيساً للأركان فقط ابتدأت ترد على رسائله.  حين اجتاح الإسرائيليون لبنان في العام ١٩٨٢م ودخلت القوات المتعددة الجنسيات جمع زعماء المقاومة اللبنانية وقال لهم افعلوا ما شئتم بالقوات الأمريكية أو البريطانية أو غيرها ولكني لا أريد لجندي إيطالي واحد أن يجرح فسأله وليد جنبلاط: لماذا الطليان بالذات؟ ورد طلاس: حتى لا تذرف جينا لولوبريجيدا دمعة واحدة. علمت بريجيدا بالأمر وظهرت على التلفزيون الإيطالي وشكرت طلاس، واستمرت الصداقة النقية بينه وبينها وامتدت إلى العائلة حتى مضى طلاس مخلفاً ذكرى مهيبة في هذا العالم كجنرال وشاعر ومؤلف وعاشق يكتب عن الحرب وعن تنسيق الزهور، ويستخدم اللغة العربية الراقية في قصائده وكتاباته، والعبارات البذيئة في خطاباته ويصف الجالسين في البيت الأبيض ب”ستين ألف كلب.. ستين ألف كلبة”.  لم يحظ طلاس بقبلة العاشق لكن لولوبريجيدا التقت ابنته هند وطبعت على خدها القبلة المشتهاة قائلة لها: أنت ابنة حبيبي.

يا بؤس هذا العالم لو لم تكن فيه إيطاليا! من يتخيل هذا العالم بدون أومبرتو إيكو مثلاً؟ في الطريق من جامعة النيلين إلى وسط الخرطوم تعرفت للمرة الأولى على الروائي والفيلسوف والأكاديمي. كانت اسم الوردة روايته الشهيرة هي الأغلى في أرفف المكتبة الأكاديمية وعجز الطالب الذي كنته عن شرائها لكنني منذئذ اشتريت أغلب انتاجه الأدبي والفكري وآخر ما قرأت له كان رواية (العدد صفر). ما كان هذا العالم ليطاق دون أومبرتو إيكو لكن لا يمكن الكتابة أكثر من هذا.

توقفت الشبكة إذ لم نعد بحاجة الى القصص المصورة لكن عالمنا ما يزال رائعاً وجميلاً وبهياً فصوفيا لورين وجينا لولوبريجيدا ما انفكتا تنثران العطر والبهاء هناك. يحارب الإيطاليون الكورونا بالرقص والموسيقى والغناء من على نوافذ منازلهم ونحن في السودان غنينا لهم منذ عقود بصوت حسن عطية وكلمات محمد أحمد محجوب الذي تغزل في حسناء إيطالية سألها عن اسمها فأجابت: فيردالونا أو القمر الأخضر وخلدها أمير العود في أغنية صنعت لتبقى.

لم ينته!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى