جمهورية السودان المختلة ١-٢

 

صرتُ لا أستبعد صدق الرواية التي تقول إن وفداً من الساسة الأفندية الذين كانوا يتأهبون لاختطاف السودان أرضاً وشعباً كغنيمة في عهد ما بعد الاستعمار ذهب للقاء زعيم سياسي شعبي مرموق، تحدثنا كتب التأريخ أنه كان وطنياً مقداماً وباسلاً، بغرض إبلاغه بموعد جلسة إعلان الاستقلال من داخل البرلمان والتي اقترح الإداريون الاستعماريون لها الساعة السابعة من صباح التاسع عشر من ديسمبر عام ١٩٥٥م. على الفور رفض الزعيم الاقتراح قائلاً “استقلال شنو من دغش الرحمن؟ خلونا نفطر ونجي”، وأجّل الجميع سوداناً وبيضاناً بدء مراسم الجلسة ريثما يفطر الزعيم.

هذه حكاية تُروى شفاهة في مجالس السمر لكن أجيالاً من السودانيين ظلت تُحرَم من التعرف على التأريخ الحقيقي لخيبات الطبقة السياسية، مقابل تكرار صفحات صماء من كتب التاريخ المدرسي التي لا تعنى بالحقيقة بقدر ما تعنى ببث الروح الوطنية في التلاميذ.

ما ترتب على تاريخنا المنسي في الصدور ترتب على حاضرنا السياسي الزائف، والذي يستمد منهجه من ماضينا، ويعيده في دورات قصيرة متعاقبة لا تتعلم من سابقاتها إلا تجويد القبح ليصير أقبح، وهكذا حصلنا بإصرار نخبتنا السياسية المتواطئة مع الزعامات التقليدية على دولة مختلة وظيفياً بامتياز (Dysfunctional State) وفي عهد الحرية والتغيير هذا لم يبق لنا سوى أن نضيف هذه الصفة لاسم بلادنا الرسمي ليطابق المظهر الجوهر.

في عهد ما قبل الاستعمار هيأت الإدارة البريطانية البلاد للحصول على استقلالها وفق كتاب وستمنستر، فصنعت بيوتاً إقطاعية ذات مال ونفوذ مقابل النبلاء وحملة الألقاب في الإمبراطورية، وصنعت من بين هذه الإقطاعيات تحالفات وقسمتها إلى تيارين رئيسيين كما ينبغي للديمقراطية الغربية أن تشتغل. ثم صنعت عدداً من الأفندية المنوط بهم خدمة حملة الألقاب والتوافُق والاختلاف حول اتفاقاتهم وخلافاتهم.

لكن يبدو أن عمل الإدارة الاستعمارية لم يكن جيداً بما يكفي لأنه بمجرد خروجها وتسليم السودان للسودانيين، أصرّت النخب المصنوعة على تجاوز أدوارها المرسومة لها إذ أراد الدوقات وحملة الألقاب ممارسة السلطة التنفيذية بالأصالة فيما استحسن الكثير من الأفندية أن يلعبوا في مربعات الدوقات ورجال المال والنفوذ، وهكذا بدأ التجاذب واختلت الدولة. صارت خلافات الأفندية في الدواوين الرسمية تنتقل للحل في الصالونات الخاصة، وصارت خلافات الصالونات الخاصة هي الناظمة لنشاز إيقاع عمل الدولة وتحولت الدولة منذئذ إلى غنيمة.

من يريد الثراء لا يحتاج إلى العمل والاجتهاد والبذل وحسن الإدارة وإنما عليه سرقة الدولة عبر التعاقدات والعطاءات والإعفاءات الجمركية. في حاضرنا اليوم نهب منظم تحت ستار الصناعة، مثلاً إذ يتم استيراد الكثير من الآليات وهي مفككة، ثم تجميعها في السودان دون الحاجة إلى مسمار واحد مصنوع محلياً وبيعها في السوق بنفس سعر ذات البضاعة المستورة وهذا تهرب جمركي مكشوف وسافر ومفضوح.

 

من يريد الثراء ليس عليه سوى الحصول على توكيلات لشركات أجنبية ثم تسمح له القوانين المحلية بالاحتكار وعدم المنافسة فيثرى بسبب قيامه ببيع السلعة أو الخدمة بأضعاف ثمنها، واللعب في الجودة ما دام مناخ عدم المنافسة مضموناً ومتاحاً.

نواصل

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى