(حنبنيهو) …مبادرات لتغيير واقع مُحزِن

 

 

الخرطوم: محمد جادين

كثيرة هي المبادرات الإنسانية والاجتماعية التي فجرها “الشباب السوداني” خلال الفترة الماضية بعد أن تقاعست الحكومة البائدة عن القيام بأبسط واجباتها تجاه المواطنين، واقع مُزرٍ تشكّل وفقاً لخريطة الفقر والإفقار بفعل السياسات الرعناء والانتهازية وحريق الحروب وتداعياتها وتدمير البنى التحتية وإهمال المشاريع المنتجة، فكان أن سيطر الجوع والمرض، وتمددت معسكرات اللجوء والنزوح فظهرت الحكايا الحزينة والصورة المؤسفة في جدار الإنسانية، أطفال على قارعة الرصيف يمتهنون التسوّل، مرضى يئنون بالوجع على أبواب المستشفيات ولا يمتلكون ثمن “حقنة”، تلاميذ تسربوا من مقاعد الدراسة فقط لأنهم يمضون اليوم الدراسي على “الريق” بلا وجبة “فطور” في فصول متهالكة وآيلة للسقوط.

وفي هذا الواقع البائس تفجرت عبقرية الشباب السوداني المُبدع واستدعى روح “النفير” الموروثة وقيم التكافل والتراحم فأشرقت مبادرات الخير في ظلمات العوز والحاجة لمساعدة المحتاجين بل امتدت المبادرات لآفاق أرحب لصيانة المدارس والمستشفيات ونظافة الشوارع والأحياء فظهرت حملات “حنبنيهو” العلامة الفارقة في النشاط المجتمعي والإنساني الذي تجلى مؤخراً في أعقاب ثورة ديسمبر المجيدة، وانتقلت الروح الجماعية التي كانت سائدة في “ميدان الاعتصام” إلى الشوارع والمدارس والمستشفيات والأحياء.

في هذه المساحة نستعرض نماذج من التجارب الناضجة والمشرقة في العمل الطوعي، والإجابة على تساؤلات أن هذه المبادرات خبا بريقها مؤخراً وهدأت أنفاسها ولم تعد بذات الحماس الذي بدأت به وكأنما حالة الإحباط السائدة حالياً أثرت على حراكها في أعقاب الظروف الاقتصادية والمعيشية الضاغطة والأزمات المتلاحقة التي تواجه الحكومة والمواطن.

حنبنيهو

“حنبنيهو” كلمة واحدة اختصرت معاني النفير العظيمة والموروثة من خصال الشعب السوداني المُعلم، تجلت في كلمات شاعر الشعب الراحل “محجوب شريف” حينما كتب “حنبنيهو البنحلم ﺑﻴﻬﻮ ﻳﻮﻣﺎﺗي.. وﻃﻦ ﺷﺎﻣﺦ ﻭﻃﻦ ﻋﺎﺗي.. وﻃﻦ ﺧﻴّﺮ ﺩﻳﻤﻘﺮﺍطي”، ومن ثم أصبحت شعار المرحلة لتكون عنواناً لحملة العطاء وحب الوطن وإنطلاقة لبنائه من جديد.

فكان أن انطلقت الحملة منذ أن دَعا لها تجمع المهنيين السودانيين منذ فجر ثورة ديسمبر، ووَجدت تجاوباً كبير ورواجاً بين فئة الشباب خاصة، وتفاعلت معها كل فئات المجتمع السوداني في كل بقاع السودان تفاعلاً عظيماً.

انتشرت حملة “حنبنيهو” كمبادرات داخل الأحياء في ولاية الخرطوم، بنظافة الشوارع داخل الأحياء وإعادة طلاء الطرق الرئيسية العامة، ثم انتقلت إلى إعادة تأهيل المدارس والمستشفيات، ولم تقتصر الحملة على ولاية الخرطوم فقط، بل عمت كل ولايات ومدن وقرى السودان فتكشفت أضواؤها في ” نيالا والفاشر وسنار والقضارف وكسلا والأبيض ومدني ودنقلا ومروي وغيرها من المدن والقرى”، في لوحة تعاونية شبابية تبشر بالقادم.

تأهيل المستشفيات

من البرامج الفاعلة حالياً في حملة “حنبنيهو” مبادرة تأهيل المستشفيات التي انطلقت في العاصمة والولايات، ومنذ أيام قليلة شرعت المبادرة في تأهيل مستشفى بحري الذي انطلقت فكرة تأهيله بتاريخ  “الجمعة” 29 نوفمبر 2019م من قبل ” مبادرة شبابك تشابك”ن ولجان أحياء بحري وتجمع اصحاب العمل والطاقم العامل بمستشفى بحري، وتواصلت الجهود بمساهمة “تجمع المهنيين” الذي أوضح في بيان أن المبادرة تأتي استمراراً لتكملة المجهودات الكبيرة بغرض النهوض بالخدمات الطبية والعلاجية والوقائية، وإعادة تأهيل المستشفى وتوفير كافة احتياجاته عبر المجهود الشعبي الطوعي، وأشار إلى أن مستشفيات القطاع العام لحق بها تدمير مُمنهج، وطال الأثر كل الجمهور المستفيد من الخدمات .

ومنذ أيام وقف رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك خلال زيارة لمستشفى بحري التعليمي الأربعاء, على الجهود التى تبذلها لجان مقاومة بحري بالتعاون مع تجمع رجال الأعمال بالإضافة للحرفيين لتأهيل المستشفى التعليمي بأقسامه المختلفة، وأكد   التزام حكومة الفترة الانتقالية بترقية وتطوير القطاع الصحي، وأثنى على مبادرة لجان مقاومة بحري وتجمع رجال الأعمال لإعمار المستشفي بحري، وأعلن دعم الحكومة بلا حدود لهذه المبادرة، وقال إنها تُجسد شعار (حنبنيهو) بصورة عملية.

وقبلها أيضاً نشطت حملة دورية لنظافة مستشفى أمدرمان التعليمي ابتدرتها لجان مقاومة أحياء أمدرمان الكبرى، تناولت الحملة أيضاً جانب توعوي للمواطنين الزوار والمرافقين داخل المستشفى بأهمية المحافظة على نظافة المستشفي وظلت الحملة متواصلة كل “سبت” من كل أسبوع لترقية المستشفى إلى حال أفضل.

شارع الحوادث

“شارع الحوادث” من المبادرات العظيمة التي خرجت من رحم المعاناة والحاجة وأصبحت معلماً بارزاً وتجربة يُهتدى بها في العمل الإنساني والتجرد والتضحية، تفتقت البذرة وأثمرت أشجارها وامتد ظلها ولا تكاد تخلو ولاية في السودان أو مدينة لم تعمها المبادرة وفي كل شارع مستشفى تجد الأبطال المجهولين يقدمون العون بصمت وتجرد للمرضى والمحتاجين.

بدأت الفكرة حوالي العام 2009م من مجموعة من الشباب يقدمون برامج ترفيهية للأطفال المصابين بالسرطان لمساعدتهم على التأقلم مع المرض وتأثيرات العلاج الكيميائي، وشيئاً فشيئاً اقتنع الشباب بأن الأطفال أحوج للأدوية أكثر من حاجتهم للترفيه فبدأوا في محاولات شراء الأدوية وبعضاً من احتياجاتهم الأخرى.

بعدها حول الشباب نشاطهم إلى شارع الحوادث بالخرطوم (شارع المستشفيات والعيادات الطبية)،  قبالة مستشفى جعفر بن عوف للأطفال، حيث كانوا يعرضون المساعدة على أسر الأطفال المرضى القادمين لمستشفى جعفر بن عوف للأطفال من الذين تظهر على سيماها علامات الفقر والحيرة، وكانت نقطة التحوّل في تاريخ المبادرة بعد إنشاء صفحة لـ “شارع الحوادث” على موقع “فيسبوك” في أغسطس 2012م، ومن ثم انتقلت المبادرة إلى خارج الخرطوم، حيث يعرض الشباب الحالات التي تحتاج إلى مساعدة على الصفحة، فيسعى الراغبون في المساعدة بشراء دواء أو إجراء فحوصات أو عمل صورة أشعة بالتعامل مباشرة مع المريض، وفي  العادة لا يستلم الأعضاء مالاً من المتبرعين إنما يوجهون المتبرع للتعامل مباشرة مع المريض المحتاج، أو توجيهه لسداد ديون الجمعية على بعض الصيدليات والمختبرات ومراكز الأشعة، فأصبحت المبادرة حلقة وصل بين المانح والمستفيد ما أكسبها مصداقية عالية بعدها استطاعت مبادرة شارع الحوادث استقطاب أعداد كبيرة من المتطوعين الشباب منهم من يعمل بالقطاع الصحي أصلاً وبعضهم من العاملين في مختلف مؤسسات الدولة أو القطاع الخاص وتضم المبادرة حالياً أكثر من 2000 متطوع في الخرطوم و17 مدينة خارج الخرطوم.

أسامة يوسف الطاهر من شارع الحوادث بمدينة “ود مدني” حاضرة ولاية الجزيرة، أكد لـ “الصيحة” أن المبادرة لم تتوقف ومازالت فاعلة ليست في ود مدني فحسب بل في جميع الولايات، وأشار إلى أن الظروف الاقتصادية الطاحنة أثرت بصورة عامة على معظم النشاطات الإنسانية خاصة وأنها تعتمد على التبرعات من الخيرين، فضلاً عن ارتفاع تكلفة العلاج الباهظة، وقال “في السابق أحياناً قد يأتي مبلغ من أحد الخيرين يحل مشكلة دواء لأكثر من محتاج، ولكن حالياً فقدت العملة قيمتها وارتفعت أسعار الأدوية وأصبح دعم كم متبرع يحل مشكلة واحدة”، وأكد  الطاهر أن عمل الخير لن يتوقف ومبادرة شارع الحوادث أثبتت أنها مؤثرة من خلال استنفار قيم الشهامة وحب الخير وبأقل الإمكانيات يمكن أن تقدم شيئاً للمجتمع، وأضاف “هذه التجربة هزمت قلة الإمكانيات أو نقص التمويل، وأكدت أنه بالتضافر والتكاتف يمكن أن نصنع المُعجزات”.

إفطار تلميذ

من جانبها قالت مدير الإعلام بمنظمة “مجددون” أفنان صديق محمد لـ “الصيحة”، إن الحديث عن ضعف نشاط المنظمات الطوعية بصورة عامة في الفترة الحالية يرجع إلى شقين الأول يرتبط بسبل دعمها بطريقة أو بأخرى من جهات حكومية في السابق ما أثر على نشاطها، أما الشق الثاني فيرتبط بجانب معنوي خاصة أن أغلب الكوادر من الشباب وأصبح تركيزهم حالياً على برامج الثورة، لافتة إلى أن وضع البلاد حتى اليوم غير آمن لتنفيذ نوعية محددة من النشاطات.

وقطعت بأن “مجددون” غير محتاجة إلى إثبات أنها كانت تتلقى دعماً من النظام السابق، وأشارت إلى أنها المنظمة الأولى التي دخلت القيادة وميدان “الاعتصام” قبل زوال النظام السابق، وأعلنت بالفم المليان أنها مع “الثورة” وشاركت في برامج إعداد وجبة الإفطار الرمضاني.

وأكدت أفنان أن المبادرة فاعلة حالياً وإن كانت بصورة أقل نظراً إلى أن تنفيذ بعض البرامج في الوقت الحالي قد يفسر خطأ، وأشارت إلى أن نشاطات المنظمة غير مرتبطة بالميديا ووسائل الإعلام، وأكدت أنها تصب في مصلحة المواطن الضعيف من أطفال المدارس الذين لا يحصلون على وجبة الإفطار، وقالت “رسالتنا عبر الإعلام هي حث المواطن للمشاركة في الفعاليات”.

وأكدت أفنان أن مشروع “إفطار تلميذ” مازال متواصلاً خلال الفترة الحالية من خلال توفير وجبة إفطار لحوالي “19” ألف طالب، وقطعت بأن الإطعام لن يتوقف بعد عطلة المدارس وسيتواصل في خلاوى تحفيظ القرآن، وقالت إنها تحتاج أكثر من غيرها.

ونوهت أفنان إلى شراكات أخرى مع منظمات دولية تتصل بمشاريع السقيا وحفر الآبار في المناطق الطرفية، وأشارت إلى أن المناخ الحالي بعد الثورة فتح شهية منظمات دولية للبحث عن شراكات جديدة مع المنظمات الفعالة حالياً.

“مواصلات”

خلال أزمة المواصلات الحالية نشطت مبادرات فردية عمت فكرتها أماكن الزحام، وسريعاً ما يبادر الشباب بترينمة “يا ماشي لبيتك، شيل معك نفرين”  هتاف تصدح به حناجر شباب يعترضون سير مركبات خاصة في شوارع الخرطوم لإقناع سائقيها بأن يقلّوا معهم مجّاناً ركّاباً ينتظرون منذ ساعات وسيلة نقل في ظلّ أزمة مواصلات خانقة تعاني منها العاصمة السودانية.

وقال الطالب بجامعة النيلين كلية القانون، محمود نور الدائم، أحد الشباب الفاعلين في مبادرة  “المواصلات” لـ “الصيحة”، إن روح الثورة مازالت مُتقده في نفوس الشباب والشارع وسريعاً ما تجد المبادرات قبولاً من الغالبية، وأضاف “أصبح هنالك حس جماعي كان مفقوداً قبل الثورة”، وأشار إلى أنه خلال الفترة الماضية إبان عهد الظام البائد ما كان أحد يستطيع أن يعترض طريق سيارة خاصة ويطالبها بالتوقف وتوصيل أحد المواطنين. وأضاف “نردد بصورة تلقائية يا ماشي لبيتك، شيل معك غيرك، ارفع معك أمك،  وصّل معك أختك”  وأكد أن عدداً كبيراً من أصحاب المركبات الخاصة يتجاوب مع الفكرة.

//////////////////////

“حنبنيهو”

لشاعر الشعب محجوب شريف

حنبنيهو

البنحلم بيهو يوماتي

وطن شامخ وطن عاتي

وطن خيّر ديمقراطي

وطن مالك زمام أمرو

ومتوهج لهب جمرو

وطن غالي

نجومو تلالي في العالي

إرادة.. سيادة.. حريّة

مكان الفرد تتقدم

قيادتنا الجماعيّة

مكان السجنِ مستشفى

مكان المنفى كليّة

مكان الأسرى ورديّة

مكان الحسرة أغنيّة

مكان الطلقة عصفورة

تحلق حول نافورة

تمازج شُفّع الروضة

حنبنيهو

البنحلم بيهو يوماتي

وطن للسلم أجنحتو

ضدّ الحرب أسلحتو

عدد ما فوق ما تحتو

مدد للأرض محتلة

سند للإيدو ملويّة

حنبنيهو..

البنحلم بيهو يوماتي

وطن حدّادي مدّادي

ما بنبنيهو فرّادي

ولا بالضجة في الرادي

ولا الخطب الحماسيّة

وطن بالفيهو نتساوى

نحلم .. نقرأ .. نتداوى

مساكن .. كهرباء .. ومويه

تحتنا الظلمه تتهاوى

نختّ الفجر طاقيّه

وتطلع شمس مقهورة

بخط الشعب ممهورة

تخلي الدنيا مبهورة

إرادة

وحده شعبيّة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى