هل ما زالت مكاناً للمبدعين والمُثقفين ..ساحة (أتني)

 

 

الخرطوم: محمد جادين

الساعة تمضي إلى العاشرة صباحاً وظل المباني العتيقة يتمدّد في المكان، محلات “الأناتيك” والفلكلور تبدو بلا حِراك، بائعات “الشاي” يتوزّعن على جنبات وزوايا و”مساطب” المحال التجارية وأغلبهن ينتظر وقت الذروة الذي تفصله ساعات إلى ما بعد منتصف النهار، حيث تضج الساحة بالحراك، أسراب الحمائم تتنقل في الأرجاء تبحث عن فتات “القمح” و”الذرة” وبقايا “الكبكبي” في انتظار قادمين تألفهم تتحلّق حولهم تحط على أكتفاهم بسكينة تلقط الحبوب من أيديهم، فبعض رواد “أتني” من “روتينهم” اليومي إطعام “الحمام” الذي بات معلماً بارزاً في ساحة الثقافة وتجمع المُبدعين التي تتوسط العاصمة الخرطوم في منطقة “السوق العربي”.

عُرفت ساحة “أتني” منذ عقود  بأنها  أشهر فضاء مفتوح يضم المُثقفين السودانيين بمختلف ضروبهم من كُتّاب وروائيين، ورسامين ونحاتين وموسيقيين وفنانين وصحفيين وناشطين في العمل المدني والإنساني، وتعد الساحة متنفساً ورئة ثالثة لفضاء الخرطوم الثقافي المخنوق بالركود طوال الفترات السابقة، خاصة في عهد النظام المخلوع، وكثيراً ما تحولت “أتني” في فترات عجزت فيها الخرطوم عن الحراك الثقافي إلى ساحة للإبداع  ومعرضاً مُبسطاً  للكِتاب ومرسماً للتشكيليين ومنتدى لأهل الشعر وتبادُل الأفكار والمُثاقفة، والسؤال هل مازالت “أتني” بذات الألق والروح المسكونة بالإبداع، هل روادها ما زالوا هم من يلونون جدارياتها بالفنون، أم تسيّدها “دُخلاء” احتلوا جنباتها وعكسوا صورة شائهة للمكان، ذروة نشاطهم “احتساء القهوة” وملء المكان بالضجيج والضحكات الصارخة.

ملف “جيلي أنا” في هذه المساحة يُلقي الضوء على “أتني” بعد أن كثُر الحديث حولها خلال الأيام الماضية على خلفية “انتحار شابة” صغيرة قيل إنها من رواد المكان، ومن ثم شن البعض هجوماً عنيفاً في وسائل التواصل الاجتماعي على “ساحة الثقافة” ووسموها بأنها أصبحت قِبلة لـ “غريبي الأطوار” والمشوهين نفسياً والحيارى والمُتسكّعين.

تسمية

تاريخياً ظل سوق “أتني” مكانًا يتوافد إليه المثقفون منذ فترة الاستعمار الإنجليزي على البلاد، وبحسب الروايات المُتداولة ترجع تسمية السوق بـ “أتني” لأسماء أحد التجار “الأغاريق” الذين فتحوا أولى المحلات التجارية والمقاهي في المكان، وكان مُعظم التجار من الأجانب بخاصة اليهود والأغاريق والإيطاليين وقلة من السودانيين إلى أن تمت سودنة السوق في العام “1971” وتمليك السودانيين المحلات التجارية، وحينها كان السوق يضج بالحيوية، لكن السوق عانى من كساد وموات خلال  العام “1983” وظل يفتح أبوابه في تمام السابعة صباحًا حتى الواحدة ظهرًا فقط إبان فترة الرئيس السابق جعفر نميري وتطبيق قوانين سبتمبر التي شهدت تطبيق الشريعة الإسلامية، وعاود السوق نشاطه مع بدايات الإنقاذ، ولكن تراجعت الحركة التجارية داخله بسبب الحصار الاقتصادي الأميركي والظروف التي عانت منها البلاد، كان السوق في السابق يشتهر بأجود أنواع القماش في فترة ازدهاره وظهرت فيه جميع أنواع الموضة وأشهرها “وقتذاك” ملابس أطلق عليها “الخرطوم بالليل” وحاليًا السوق يشتهر  بتجارة “الأناتيك” والفلكلور وتوافُد المثقفين.

حراك

يتصاعد الحراك الثقافي والإبداعي في ساحة “أتني” من حين لآخر ويتلاشى في بعض الأوقات وأحياناً يبدو المكان بأنه أشبه برواق “للأنس والتسامر”، ولكن ذلك لا ينفي أن ذات الساحة شهدت حراكاً فاعلاً واحتضنت أياماً ثقافية ومهرجانات نُظّمت بواسطة المثقفين بمبادارتهم المتلاحقة التي حوّلت المكان إلى مرسم يؤمه التشكيليون، تجلى ذلك خلال احتفالية اليوم العالمي لـ “الرسم”، ويتوافد على السوق أيضًا السياح والأجانب والدبلوماسيون بالإضافة إلى رواده المثقفين.

وشهدت ساحة “أتني” أيضًا سوقًا لبيع الكتب عُرف باسم “مفروش”  وهي فعالية خلقت نشاطاً كبيراً في الخرطوم لبيع الكتب بأسعار رمزية في محاولة لنشر الثقافة ولكن أوقفت السلطات الحكومية في الخرطوم خلال العهد البائد فعالية “مفروش” التي كانت تقام كل “ثلاثاء” من كل شهر وألغت التصديق وضيّقت على مرتاديه، وحينها كانت ترى الأجهزة الأمنية أن مرتادي السوق من اليسار والشيوعيين ويمارسون نشاطات ضد الحكومة فوضعت شروطاً تعجيزية لعرض الكتب فضلاً عن تحديد سقف زمني للتواجد بساحة أتني، لا تتعدى المغرب.

آراء سالبة

كثُر الحديث مؤخراً حول “أتني” وأنها باتت مكاناً للمظاهر السالبة على خلفية “انتحار شابة” صغيرة خلال الفترة القليلة الماضية قيل إنها من رواد المكان، ومن ثم شن البعض هجوماً عنيفاً في وسائل التواصل الاجتماعي على “ساحة الثقافة” ووسموها بأنها أصبحت قِبلة لـ “غريبي الأطوار” والمشوهين نفسياً والحيارى والمُتسكعين، والعاطلين، وانبرى للنقد الصارخ بعض مرتادي المكان.

“زول بسيط” هكذا عرّف عن نفسه، نعت المكان بأنه “تجمع للموهومين”، وقال إنه كان يحسب “أتني” ساحة مختلفة ووجدها مكاناً لـ “العوطلجية”  ليس إلا  بحسب وصفه، وأضاف: “يحسبون أنهم مثقفون ويرددون كلمات مثل احتساء القهوة ويا شفيف ويا شفيفة”.

فيما أقر بعض مُرتادي المكان بوجود مظاهر سالبة نوهوا إلى إنها موجودة في مختلف التجمعات، وأشاروا إلى تغوّل طلاب صغار السن على الساحة  وغالبيتهم من المُراهقين يدرسون بمعاهد اللغة الإنجليزية المُجاورة لـ “أتني”، أكدوا تصرفات بعضهم “صبيانية” طائشة عكست صورة سالبة للمكان.

دفاع

الروائي الشاب محمد عبد العزيز أحمد، استنكر الهجوم على “أتني” ووصفه بغير المُبرر خاصة من رواد للمكان، ودعاهم للدفاع عنه وتحريك فعاليته بدلاً عن عكس صورة سالبة عنه وقال في حديثه لـ “الصيحة”، إننا “ندين

ونشجب ونستنكر ونراقب بقلق كل سلوكيات الاعتراض المحترمة والبذيئة

ضد الهجوم غير المبرر على ساحة اتني”، وأضاف “نعلن كامل تضامننا مع الناشط المكافح الذي هرب من مزبلة مجتمعه ليجد نفسه بين كوب العرق وأصدقاء عجنوا معه خبز الوقت وعصروا نبيذ التذمر في فتيل”.

وأشار إلى ما وصفها بالأمراض الاجتماعية التي أرهقت  الجيل الحالي وتأسف على أنها تسللت حتى إلى باحات المثقفين وأنصافهم و”المركبنها مكنة” على حسب وصفه.

وقال عبد العزيز: “من هنا نرسل رسالة شديدة اللهجة لكل ناشط مُصاب بانفصام سلوكي يشن هجوماً على الساحة التي احتوته في صقيع العادات ورياح البؤس، ونقول له لا تنسى أيها المشرد إنها كانت لك ملاذاً وإن كل الأشياء السالبة التي يتم تناقلها لا تؤكد سوى خوائك وعجزك عن حماية منطقتك”، وأضاف: “أفكارك الخربة هي أفكار للنقد لا أكثر وإلا لكنت طرحت أفكاراً بديلة وأطلقت مبادرات لإحياء حركات ثقافية أو اجتماعية لإنعاش عرينك”، وتابع عبد العزيز “كيف ننتظر من شخصية عاجزة عن إحياء فضائها أن تُحيي وطناً بأكمله”.

ادعاء

“فكي على” واحد من مرتادي “أتني” ومن المهمومين بالحراك الثقافي، يحكي عن المكان ويقول: “كنتُ أتردد  على أتِنَيْ بشكل راتِب قبل أن تتخِذَ مِنْهُ جماعة عمل الثقافية مَقَرّاً لفعاليتها الشهرية، بغرض أنْ يستردوا العافية لوسط الخرطوم بعد أن بدّدها الهوس الجبهوي، ولكن ومنذ ما يُقارِب الستة أعوام تثاقلت قدماي وبِتُّ ألتقي معظم الرفاق في أماكِن أخرى، فقد بات المكان مزدحماً سيما بعد أن أضحى مقراً لطلاب وطالبات معاهد اللغة الإنجليزية المتاخمة للترويح والمذاكرة في آن، أضاف: “أنا لا أُحَبِّذُ الأماكِن المزدحمة، بيد أنّي لم أنقطِع تماماً، حيثُ أرتادُ المكان من الحين إلى الآخر لألتقي من أتوقع تواجدهم بنسبة كبيرة”.

وشدّد فكي على أنه لا يستطيع أحد أن يجزم بأنّ المترددين على “أتني” عاطلون وبطّالون ومنحرفون، ونعت هذا التوصيف بالمتحامل ويشي بإضمار شيء من الحنق غير المبرر، وقال “هذه عينة عشوائية من شابات وشباب المجتمع، تتراوح أعمارهم في غالب الأمر بين العشرين والثلاثين، مع احتمال تواجد من هم دون ذلك ومن هم فوق ذلك، فيهم طلاب الجامعات، وفيهم الموظفون، وفيهم العمال، وفيهم أرباب العمل، وفيهم العاطلون لأسباب نعلمها جميعاً”.

وتابع: “هؤلاء الشباب والشابات هم رفاقنا ورفيقاتنا، فيهم المهذب والمتفلت، وفي معظمهم راشدات وراشدون، وما يمكن أن تراه هناك ما لم يعجبك من انحرافات السلوك ستراه في شارع النيل، وفي حدائق النخيل، وفي كثير من المقاهي ومحال الأنس والسمر، فليس لأي أحد أن يدعي بأنّ كل أولئك خطرٌ محدقٌ بالمجتمع، ومن يرمي بهذا الرأي الفج فعليه بالبينة وهيهات”.

وأشار فكي إلى أن “أتني” ليست خارج حدود المجتمع ، ونوه إلى أن المثالية التي كانت حديث الناس في الاعتصام ليست “كولمبيا” بعيدة عنها.

واختتم فكي علي حديثه :”لا شيء أوسعنا غثاثةً ومَجنا صَلَفاً كالتّسلّطِ وادعاءِ الطهرانية والوصاية الأخلاقية بدواعي الحرص والمروءة والشهامة، وما ثرنا إلا عليها، وليعلم كل من تسوّل له نفسه وتحدثه بذلك أنه ليس هنالك رجلٌ من الكمالِ بحيثُ يؤتمنُ على حرياتِ الآخرين”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى