الثورة التكعيبية

*إنّ العقل الثوري لا يقبل بطبعه أنصاف حُلُول، والثوار الحقيقيون لا يعودون في العادة من مُنتصف الطريق.

*هذه قاعدة لم نستطع إيفاء مطلوباتها، واستكمال شروطها على الأرض مرتين.. في هبة أكتوبر 64، وانتفاضة أبريل 85.

*وعلى نجاح كلا الهبّتين في اقتلاع نظامي الفريق عبود والمشير النميري، إلا أنّ أشراط التغيير الثوري الكامل لم تتحقّق كما ينبغي في التجربتين.

*رغم أنّ الشعب السوداني قد اتّحد في أكتوبر وفي أبريل على صعيد العاطفة بصُورةٍ مُذهلةٍ، مكّنته من إزاحة نظامين عسكريين سلمياً في تجربة غير مسبوقةٍ على مُستوى المنطقة.

*وبالتأكيد، فإنّ الثورة حالة عاطفية بامتياز.. بيد أن العاطفة دائماً هي كالبورصة لا تستقر على حالٍ، ولا تستمر إلى ما لا نهاية. 

*وبالتالي، فإنّ تواضعنا على وصف ثورة ديسمبر المجيدة بأنّها ثورة مفاهيمية، أو أنّها ثورة مفاهيم، يفتح باباً للأمل في أن تذهب هذه الثورة نحو استكمال شروط التغيير، رغم ما يعتور الطريق من مشاقٍ وعثرات وأزمات. 

*فالثورة فكرة، يصفها أحد الفلاسفة بأنها فكرة قابلة لأن تصبح قوة مادية متى ما امتلكت ناصية الجماهير.

*وعندما تكون ناصية هذه الجماهير بيد هذا الجيل (الراكب رأس)، فإن الثورة الثالثة، أو المرفوعة للقوة ثلاثة، أو قُل الثورة التكعيبية إن شئت.. لا بُدّ أنّها ستذهب في مُهمّة النزع والإقتلاع إلى عمقٍ سحيقٍ لن يطاله سوى هؤلاء الغواصون السُّمُر وحدهم، بأرديتهم القصيرة، وشُعُورهم المُصَفّفة كما يحلو لهم، أو المُرسلة الطويلة، وبأحلامهم النبيلة، بل وبوفائهم النادر لمن ارتقوا منهم شهداء.

*وفي مقام هؤلاء المُستحق قال الراحل صلاح أحمد إبراهيم: (شعبنا السوداني يستمد تكوينه الديمقرطي الملفت للنظر، ضمن مصادر موضوعية عديدة من ذلك النفي الخطير المُحرِّض فلديه: لا كبير إلا الله، وفي صيغة فكاهية أخرى لا كبير إلا الجمل)، فهو شعبٌ كما يقول صلاح جمع بين الحسنيين معاً: أعلى مُستويات الفردية وأعلى مُستويات الجماعية.

*وبالطبع لن أمل مدح هذا الجيل السوداني الشاب بفتياته وفتيانه، فقط لأنهم استمدوا بسالتهم وشهامتهم من عُمقٍ بعيدٍ، إنّهم من ثمرات هذه الهوية السودانية التي لخّصها  الراحل الخاتم عدلان بقوله الرائع: (كم هي جميلة هذه الهوية السودانية، وكم هي مُتمايزة عن الآخرين في نفس الوقت، ولكن مرايانا نفسها تحتاج إلى التطوير والصقل، لنرى تلك القوى الهاجعة في بطن هذه الأم الرؤوم المعطاءة.. المملوءة الساقين أطفالاً خلاسيين، وحينها سيكتشف السودانيون أنّ ما يطلبونه قد تركوه ببسطام، فقد تميّز السودانيون في كل أرض حلُّوا بها، لأنّهم يمتلكون طاقة التميُّز والفوت عندما يتعلّق الأمر بالخصائص الجوهرية في الإنسان.. أي علمه، وعمله، وأخلاقه، وكرامته).

*وإلى أن يقول الخاتم: (ومن يتأمّل هذا الأمر يعود إلى ذاته السودانية راضياً مرضياً).        

  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى