ثم ماذا بعد..؟

أحداث أول من أمس ستكون لها ذيولٌ وآثارٌ طويلة، باعتبارها سابِقة في تاريخ القوات النظامية التي لم تشهد من قبل خلافات داخلية أدّت إلى مُواجهات واقتحام مقرّات وعمليات عسكرية رغم محدوديّتها وقلة خسائرها، إلا أنها لم تحدُث من قبل، ولولا لطف الله بهذه البلاد لو فُتِحَت النيران وغاب العقل واستُخدِمت كل الأسلحة هنا وهناك لحدَثَت خسائر فادِحة في الأرواح والمُمِتلكات، ولولا يقظة القيادات العسكرية ومعها المجلس السيادي وحكمة التعقّل والتروّي قبل اتخاذ قرار اقتحام المقرّات، لغَرِقت تلك المقرّات بالدم والحريق والرماد، ولخَسِر السودانُ شباباً من أبنائه أساءوا التقدير في القيام بهذا العمل غير المقبول، وكانت تُوجَد بدائل أخرى للمُطالبة بالحقوق ..

لكن المُهم في هذه الظروف هو النظر إلى الجانب السياسي، وما خلّفته هذه الأحداث من ظِلال، قد تزيد حالة الاحتقان، وتصطف القوى السياسية في محاور مُحدّدة مُتقابِلة ومُتعارِضة، فبدلاً عن هذا الاصطفاف يجب البحث بسرعة عن طريق ثالث يُخرِج البلادَ من الاستقطاب والاستقطاب المُضاد، فدائماً ما يكون الفعل العسكري هو آخر المراحِل بعد أن تعجَز السياسة، لكن هذه الأحداث جعلت من الهَرَم مقلوباً، إذ جاء الفعلُ العسكري سريعاً في ظل أجواء غابَت فيها السياسة، وقلّت فاعِليّتها في مضمار السباق الحزبي ..

ومن أشد ما تُخلّفه هذه الأحداث المؤسفة أن الثقة بين الكُتل السياسية والقوات النظامية سيكون أمراً مشكوكاً فيه، خاصة إذا بُنِيَت علاقة الشراكة الحالية على المخاوف والتحسُّس ومُحاولة إقحام السياسة ألاعيبها في الدوائر العسكرية، فالقوات النظامية يجب أن تبقى بعيداً عن السياسة، وأن تجتنِب تحيُّزاتها، ففي تاريخ البلاد خلال فترات الحكم الوطني كما يعرف الجميع، لم تقُم الانقلابات العسكرية برغبة القوات المسلحة إنما يصنعُها أهل السياسة وينفّذونها عبر العصا العسكرية …

الآن رغم كل التطمينات منذ الأمس، سيكون لهذه الأحداث تأثيرها البالٍغ على الحياة السياسية، وقد تقود إلى نتائج تنعكس على الفترة الانتقالية وفي طبيعة الانتقال الديمقراطي، لأن المُناداة الراهنة بإجراءات احترازية وتأمينية وإضافة قيود أخرى على العمل السياسي، ستكون مَوانع وكوابِح تُعيق التحوُّل الديمقراطي بالشكل المطلوب، ودائماً ما تقود مثل هذه الأحداث إلى تدابير تضع السلطة أمام تحدٍّ واحد يُصبح بالضرورة هو الهدف الوحيد، فتجنَح نحو الإعلاء من التأمين والضبط الأمني وتمديد قوانين الطوارئ هو السبيل الوحيد لحماية الوضع الداخلي، لكن الديمقراطية لا تتعزّز إلا بمزيد من الانفتاح السياسي والإصلاح القائم على رؤية وطنية جامعة وتصالُح عام وتسامُح اجتماعي ومشروع سلام شامِل تنهض به البلادُ من جمر الحروب ولظاها إلى باحة الطمأنينة والاستقرار … وهذا ما نريده اليوم قبل كل شيء …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى