الاستثمارات الأجنبية.. جدلية البقاء أو المغادرة

1.3 مليار دولار حجم الاستثمارات الأجنبية

تناقُص الاستثمارات المباشرة بنسبة 55% بين “2006- 2018”

هروب ملياري دولار رأسمال وطني خلال الأشهر الستة الأخيرة

اقتصاديون: بيئة الاستثمار طاردة وتغيير السياسات أكبر هاجس

الخرطوم: جمعة عبد الله

بعد مرور أكثر من “6” أشهر على تكوين الحكومة الانتقالية، لا يبدو أن تغييراً يُذكر قد طرأ في الجانب الاقتصادي الذي يزداد سوءاً يوماً بعد آخر عكس التوقعات، ويساور القلق الكثير من المستثمرين الوطنيين والأجانب وبعض الاستثمارات المشتركة من عدم تعافي الاقتصاد السوداني قريباً، لجهة غياب المؤشرات التي تدعم هذا الاتجاه، وهو ما يدعوهم لإعادة التفكير حول جدوى استمرار أعمالهم في السودان ودراسة الأسواق القريبة لمقارنة فرص العمل فيها.

قلق ومخاوف

ورغم تكوين الحكومة جهازاً قومياً للاستثمار وتعيين موظفة سابقة بالبنك الدولي مديرة له، إلا أن الفترة الماضية لم تشهد اجتذاب استثمارات جديدة، وبصورة عكسية توقفت بعض الاستثمارات من البلاد ونقلت نشاطها للخارج.

ويساور القلق المستثمرين ورجال الأعمال من توسيع نشاطهم أو دخول السوق السوداني، بسبب الوضع الضبابي الذي يسود مناخ الاستثمار بالبلاد، مع تزايد  رغبة الحكومة في هيكلة القطاع التجاري عامة، وبالنسبة للمستثمرين الاجانب فالظروف الراهنة غير مواتية كلياً لبدء نشاط استثماري بالسودان، كما يتخوف رجال الأعمال الوطنيين من قرارات حكومية تطالهم بحجة “إزالة التمكين”.

مراجعات حكومية

ولوّحت الحكومة أكثر من مرة وعلى لسان وزراء ومسؤولين بمراجعة شاملة لكل عقود الاستثمار التي منحت في السنوات الماضية، وطبق بعضها فعلياً بعض الإجراءات في قطاعي النفط والتعدين، فأوقفت “9” شركات تعمل في مجال التنقيب عن الذهب، كما شمل الإيقاف شركة “هواكان حمادي” الصينية، وهي من أكبر الشركات العاملة في مجال التنقيب عن الذهب، وتمتلك مربعات امتياز بولاية نهر النيل.

وبشكل عام، وقبل هذه التعقيدات الحالية، يمر قطاع الأعمال والاستثمار بمرحلة من التباطؤ غير المسبوق بعد تراجع أنشطته بسبب النمو الضعيف للاقتصاد السوداني خلال الأعوام القليلة المنصرمة، وانعكست هذه الحالة على العديد من الأعمال التجارية والاستثمارات الاجنبية التي تنشط في السوق المحلي وباتت العديد من الأعمال إما مهددة بالتراجع الحاد أو التوقف الكلي بسبب ظروف العمل غير المواتية، وفاقم عدم الاستقرار السياسي والفراغ الحكومي من مخاوف هذه القطاعات وأدى لتراجع نشاطها بشكل ملحوظ.

تراجع كبير                                         

وكشف الخبير الاقتصادي د. محمد الناير، عن تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالسودان بنسبة 55% خلال الفترة من 2006م – 2018م، وأكد  أن تنفيذ المشروعات الاستثمارية المصدقة لم يتجاوز 26%، مقابل 9% فقط من المشاريع المحلية، وحذر من هروب ما تبقى من استثمارات أجنبية بسبب ارتفاع سعر الصرف وزيادة التضخم خشية من تآكل رأس المال.

وقال الناير لـ “الصيحة”، إن الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالسودان في 2006 كانت 3.5 مليار دولار تتناقص تدريجياً حتى وصلت العام الماضي إلى 1.3 مليار دولار، وأرجع سبب تناقص الاستثمار الأجنبي المباشر لعدم التزام الحكومة بتحويل الأرباح بالنقد الأجنبي وكثرة التعديلات على قوانين الاستثمار وعدم الالتزام بتطبيقها وعدم استقرار سعر الصرف وارتفاع التضخم، موضحاً أن السودان قادر على استقطاب 50 مليار دولار سنوياً تمثل فاتورة استيراد الغذاء للدول العربية، وأكد أن تنفيذ المشروعات الصناعية الأجنبية لم يتجاوز 37% من جملة المشاريع المصدقة، والخدمية 18%، والزراعية 21%، موضحاً انطباق الأمر على المشروعات المحلية بتنفيذ 4% فقط من المصدقة للقطاع الصناعي، و12% للخدمي، و33% للزراعي، ودعا مجلس الوزراء لمراجعة قرار تبعية الجهاز القومي للاستثمار لوزارة المالية، وقال إنه يضعف أداء الاستثمار.

أسباب متعددة

وتواجه أغلب الاستثمارات الأجنبية بالبلاد، مصيرا غامضاً حتى الآن لعدم اتضاح الرؤية  ما بين الخروج أو المواصلة، وتتباين الأسباب بين عدم جدوى الاستمرار في ظل اقتصاد يعاني من مشكلات لا حصر لها، وتعقيدات حكومية ومحلية أرغمت أحد أكبر مصانع الاسمنت بالبلاد “مصنع اسمنت عطبرة” للشروع في تفكيكه وتشغيله في دولة مجاورة.

وبسبب افتقار السودان لمصادر الطاقة، لم تتح بعد الفرصة لاجتذاب الصناعات الثقيلة والكبيرة، كما أن بعض الاستثمارات العاملة تعاني من مشكلة ارتفاع تكلفة التشغيل وفاتورة الطاقة على القطاع  الصناعي والتجاري والزراعي، حيث تتأثر سلباً بتكلفة الإنتاج مما يفقدها المنافسة في الأسواق الإقليمية عند التصدير، كما أن منتجات هذه الاستثمارات تُعاني الركود داخلياً بسبب التضخم وتآكل قيمة الأموال فبات دخل المواطن لا يكفي إلا لسداد رمقه والضروريات من الحياة، وهو ما حفز على خروج رأس المال الموجود من البلاد والاتجاه لأسواق قريبة أفضل حالًا.

حوافز غائبة

ويقول الخبير الإقتصادي، د. طه حسين، إن فرص النمو لأي من القطاعات الاقتصادية مرهونة بمدى توفر جملة من الشروط أولها “الاستقرار”، وقال إنه يشمل الاستقرار السياسي والأمني واستقرار سعر الصرف وثبات السياسات الاقتصادية، وهو ما لا يتوفر كله حالياً بحسب قوله.

وقال حسين لـ “الصيحة”، إن الاسثتمارات الأجنبية لا تخاطر برؤوس أموالها في وضع مضطرب وغير واضح المعالم، موضحاً أن أي اختلال في السياسات يبعث المخاوف في هذه الاستثمارات مما يجعلها تفكر في سحب أنشطتها لمواقع أخرى أكثر أماناً وبها فرص النمو المضمون.

ومسبقاً لم يكن السوق السوداني جاذبًا للاستثمار لعدة اعتبارات منها ضعف الاقتصاد الوطني وعدم تهيئة البيئة المناسبة بالرغم من وجود قانون يوصف بـ “الجيد” للاستثمارات، لكن عدم استقرار سعر الصرف، وتصاعد تكاليف الإنتاج وافتقار السودان للبنيات التحتية المتطورة في مجال النقل والتسويق والعرض إضافة للعشوائية التي تصاحب العمل التجاري جعل من مهمة المستثمرين الأجانب ضعيفة لحد لا يتناسب مع الإمكانات المتاحة.

عقبات لا حصر لها

وبحسب مدير عام إحدى الشركات الخليجية التي تنشط في قطاع الإجارة بالسودان، يمثل تذبذب سعر الصرف أحد أكبر مهددات استمرار الشركات الأجنبية في البلاد، بسبب تغير أسعار المطالبات بين فترة وأخرى مما يخل بالميزانيات الموضوعة لهذا الغرض، موضحاً أن الشركات الأجنبية تعاني عشرات المشاكل التي حدّت من فعالية أدائها وأدت لتقليل النمو المتوقع في المجالات الاقتصادية.

وقال المصدر، في حديث لـ “الصيحة” إن العقبات التي تواجه قطاع الأعمال “لا حصر لها”، مشيرًا إلى أنها تتراوح ما بين سياسات بنك السودان المركزي المتقلبة وصعوبة الحصول على الأموال من الحسابات طرف البنوك إضافة لعدم ثبات سعر الصرف الذي كثيرًا ما يكبد الشركات خسائر، كما يصعب على بعض الشركات تحويل أرباح المساهمين وبعض المستحقات لضعف وتقليدية شبكات المراسلة التي يتعامل معها السودان، ويأتي توفير الدولار ضمن أصعب المهام التي تعترض عمل الشركات الأجنبية، حيث إن بعض مساهميها أجانب بطبيعة الحال ولا يمكن تحويل أرباح أسهمهم بالعملة المحلية.

ويحذر مختصون من تبعات سالبة لاستمرار الوضع الحالي الذي يهدد بخروج بعض رؤوس الأموال من البلاد بسبب صعوبة العمل في ظل هذه الأوضاع، مشيرين لتوقف بعض القطاعات الحيوية مثل قطاع المقاولات والإنشاءات العقارية بسبب ارتفاع تكاليف البناء لمستويات قياسية، علاوة على غلاء قيمة الأراضي في السودان مقارنة بالدول المحيطة، حيث يفوق سعر المتر في السودان سعره في مدن عالمية مما يجعل كثيراً من شركات الانشاءات تنسحب من السوق السوداني وتتجه لأسواق أفضل بيئة وتنافسية.

هروب للأسواق الآمنة

وكان اتحاد أصحاب العمل “مركز ثقل القطاع الخاص”، قد كشف منتصف العام المنصرم عن هروب أكثر من مليارين ونصف المليار دولار من رؤوس الاموال الوطنية للتنمية إلى أثيوبيا.

وحينها قال مسؤول بالاتحاد إن مشكلة السياسات والمستجدات التي طرأت على الوضع السياسي والاقتصادي أدت إلى هروب أصحاب رأس المال لدول الجوار وكشف عن اتجاه العديد من الاستثمارات الوطنية إلى يوغندا لما بها من استقرار سياسي واقتصادي واستقرار سعر صرف العملات، ووصف الأمر بـ “الخطير” على  الاقتصاد المحلي لكونه يتزامن مع التراجع المتواصل لأسعار العملة الوطنية (الجنيه السوداني) مقابل العملات الأجنبية.

بحسب خبراء اقتصاد، فإن خروج هذه الأموال من السوق السوداني “طبيعي ومتوقع” نظراً لتأثير التضخم وما يتبعه من آثار وتدني قيمة الجنيه المستمرة تسببت في تآكل رؤوس الأموال.

هروب من التغيير

ويرى أستاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم د. محمد الجاك، أن ما يشجع رأس المال الاستثماري عامة وطنياً كان أم أجنبيًا هو مدى جاذبية واستقرار البيئة الاستثمارية والاستقرار السياسي والأمني، وأضاف أن الدافع لجذب الاستثمارات الأجنبية توفّر بيئة اقتصادية يحتاجها المستثمر وضمانات فيما يخص الأرباح والتحويلات، أما الاستثمارات الوطنية وهروبها للخارج فلا يمكن أن يكون بسبب البيئة الاستثمارية، فمعظم الاستثمارات التي هربت بسبب تخوف أصحابها من تغيير النظام والرقابة على الاستثمارات من حيث مجالات الاستثمار فيها والشروط التي تحكمها محلياً بجانب مصادر التمويل نفسها لا يمكن الشك في أنها مصادر أصيلة أو عن طريق مجاملات وفساد، وهذا ما حدث لكثير من الاستثمارات الخارجية نسبة لتفشي الفساد والسبب الأساسي تخوف المستثمرين من مصادرة  أموالهم لأن  المصدر ليس ناتجاً من عمليات استثمارية عادية واقتصادية معروفة وتخوفهم من إعادة الأموال التي سلبت عبر الإجراءات العالمية وأرجع سبب هروب رؤوس الأموال الوطنية لضمان عدم المساءلة.

مشيراً إلى الجوانب الأمنية، وقال: لا يمكن أن تكون سبباً أساسياً، فكثير من الدراسات التي أجراها خبراء اقتصاديون أوضحت أن معظم الاستثمارات في الخارج خلال الـ 30 عاماً الماضية أصابها تراكم رأس المال من أشكال الفساد المختلفة.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى