عجز الموازنة العامة بين الحقائق والأرقام

 

الخرطوم: سارة إبراهيم عباس

تحديات كبيرة تواجه موازنة 2020م، وهي نتيجة  تبعات إرث ثقيل من الانتكاسات الاقتصادية لا تبدأ من افتقار البلاد لموارد حقيقية لتمويل هذه الموازنة، ولا تنتهي بتدهور العملة الوطنية، وفي وقت كان متوقعاً أن تشمل الموازنة المقبلة تغييراً جذرياً واختلافًا عن ما سبقها من موازنات،  ويبدو أنها تسير على ذات الخطى القديمة دون الوصول إلى مرفأ سلامة يضمن حياة معيشية كريمة للمواطن، ويخرج البلاد من الضيق الاقتصادي والأوضاع المأزومة التي تمر بها البلاد.

 لكل حديث بداية

حديث وزيرالمالية الذي ساقه أمس الأول عن إجمالي العجز في الموازنة  البالغ 150 مليار جنيه،  فهو غير مطمئن البتة وقد يعتبر مدخلاً لقطع الطريق والتعجيل بإجازة  قرار رفع الدعم عن المحروقات المؤجل إلى مارس المقبل، بحكم أن الوزير  قال في السابق ان لا حل لسد العجز في الموازنة إلا عبر رفع الدعم،  وأشار الوزير إلى أن مصروفات النظام السابق  خلال عامي 2017 م و2018م فاقت موازنة الدولة بـ(144 ) مليار جنيه،  وأوضح أنها ظلت كمديونية مستحقة  على بنك السودان  المركزي.

وكشف عن اتفاق  لجدولة المديونية، بحيث تدفع المالية مبدئياً 17%  أي حوالي 25 مليار جنيه، مبيناً أن العجز غير منظور لموازنة العام 2020م، هذا الحديث خلف عدداً من الاستفهامات والبحث عن إجابة لمعرفة السبل الكفيلة بسد عجز الموازنة من خلال استطلاع أجريناه وسط الخبراء الاقتصاديين.

بطبيعة الحال سترث الحكومة الجديدة ذات المعضلات التي أطاحت بسابقتها، بسبب شح موارد الموازنة وما أحدثته من اختلالات إضافية على الوضع الاقتصادي، ويبدو حلم الوصول لمرحلة ما قبل 2018 بعيد المنال، ففي ذلك الوقت لم يكن الدولار تخطى حاجز 20 جنيهاً، وتضاعف بنسبة أكثر من 125%، وقريباً من تلك النسبة تصاعدت النسبة حتى بلغت 68% في وقت لم يكن يراوح حاجز الـ 32% لذات الفترة.

وبالعودة لموازنة العام الحالي التي تم إقرارها في مثل هذا الوقت من العام الماضي، نجد أنها اعتمدت كلياً على الإيرادات الضريبية التي مثلت نحو 76% من جملة موارد الموازنة، وهو رقم يعطي لمحة عن افتقار البلاد للموارد الحقيقية اللازمة لتمويل الموازنة.

دعم الإنتاج بديلاً للاستهلاك

من جانبه أكد الخبير الاقتصادي د. هيثم فتحي على التراجع المتواصل لأداء القطاعات الحقيقية الرئيسية الزراعة والصناعة، ما أدى إلى ظهور اختناقات هائلة في الإنتاج زادت من الاعتماد على الاستيراد، خاصة الغذائي وقلصت من حجم الصادرات ما أدى إلى المزيد من الطلب على النقد الأجنبي علماً أن عائد صادرات الذهب لا يتعدى 1,2 مليار دولار في العام، أي ما يعادل حوالي 18% فقط من فاقد صادرات النفط.
مشددًا على أهمية تنفيذ سياسات الاقتصاد الكلي الملائمة والإصلاحات الهيكلية ذات الأهمية كإصلاح الدعم بالانتقال من دعم الاستهلاك إلى دعم الإنتاج مع تحسين بيئة الأعمال لدعم الاستثمار الخاص المنتج وزيادة الاستثمارات العامة والخاصة في البنية التحتية بغية دعم التعافي وزيادة إمكانات النمو الاقتصادي للحيلولة دون تفاقم الأزمة الاقتصادية الحالية في البلاد، خاصة أن الاقتصاد يعاني من معدلات تضخم متفاقمة وتدهور في قيمة العملة المحلية أمام العملات الأجنبية.

مما لا شك فيه أن الأزمة الاقتصادية الحالية وعدم الاستقرار الأمنى والسياسي التي تعرض لها السودان قد أثرت على جميع نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي على المستوى المعيشي للمواطنين.
وقد بدا هذا الأثر واضحاً على الموازنة العامة للدولة من خلال ارتفاع نسب العجز خلال السنوات السابقة، فقد انخفضت الموارد نتيجة تقلص الموارد الضريبية الناجمة عن انخفاض حجم النشاط الاقتصادي وتراجع الأداء ببعض المنشآت والشركات العامة والخاصة، وكذلك تراجع الإيرادات الأخرى للخزينة العامة وأهمها إيرادات الصادرات خاصة أن هناك معطيات عديدة تؤكد صعوبة حصول السودان على دعم مالي دولي في القريب العاجل بسبب مقصلة الديون الخارجية التي تعوق أي توجه خارجي لمد يد العون للاقتصاد المتأزم لا تنمية ولا عدالة اجتماعية بدون نظام سياسي ديمقراطي يقوم على (الشفافية) والمشاركة والمساءلة الحديث عن أزمة ندرة السلع والخدمات الأساسية في السودان هي قضية متفرعة خاصة أن المشكلة ليست ناتجة عن خلل معين في إدارة المنظومة
لكنها متعلقة بعدم وجود نقد أجنبي لشراء هذه الضروريات من الخارج، وهذه هي الأزمة بالأساس.
النمو الاقتصادي هو الحل

وقال فتحي في حديثه لـ (الصيحة) يمكن مواجهة العجز في الميزانية عن طريق تعزيز النمو الاقتصادي، الحد من الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب وتبسيط الأنظمة المتعلقة بالاستثمار وذلك عن طريق توفير المناخ الجاذب للاستثمار اقتصادياً ومالياً وإدارياً وتشريعياً، ورفع معدل النمو الاقتصاد، مما بدوره سيؤدي إلى تحسن الأوضاع الاقتصادية .
منادياً بأهمية إعادة الثقة إلى القطاع الخاص، وذلك من خلال تعزيز دوره في النشاط الاقتصادي، أو اتباع سياسات تحفز الإنفاق الرأسمالي وتشكّل بيئة استثمارية جاذبة تمكّن من تطوير الشراكات بين الحكومة والقطاع الخاص من أجل إنجاز المشاريع التنموية.

ديون متراكمة

وفي السياق نفسه،  قال الخبير الاقتصادي ووكيل وزارة المالية الأسبق د. عز الدين إبراهيم إن  العجز المبدئي 52 مليار جنيه، وفي هذا العام العجز التقديري 72 مليار جنيه، وأصبحت الآن 150  مليار جنيه والفرق 80 مليار جنيه جاء من الحساب المعلق ببنك السودان المركزي نتيجة لشراء الحكومة الذهب بسعر أعلى من السعر المعلن، ومن هناء جاء الفارق وتم تحويل هذه  الخسارات من بنك السودان إلى وزارة المالية باعتبارها مديونية حكومية لا يتحملها البنك المركزي ولم يكن طرفاً فيها، فهذه لم تكن  المرة الأولي في العام 2018 تم تحويلها أيضاً، واقترح عز الدين في حديثه لـ (الصيحة) أمس، أن تتم تجزئتها من بنك السودان واعتبارها ديناً هالكاً لافتاً إلى أن بنك السودان يمكن أن يعالجها من خلال  مخصصات لأن الحكومة ليست لديها المقدرة على سداد هذا العجز، وقال إن الميزانيات  مقسومة على المنصرفات والإيرادات وتمويل العجز، فعجز الميزانية لابد من تقليل المنصرفات، لذلك الاتجاه كله على رفع الدعم، مبيناً أن الإيرادات تدخل فيها الضرائب والجمارك والحكومة السابقة لم تعط أرباح الشركات أهمية بل كانت في كثير من الأحيان تدعمها رغم ضعفها.

زيادة الأعباء

وقال إن الوزير فتح على نفسه باب وزيادة عبء  إضافي للميزانية في مجانية التعليم وتخصيص وجبات مجانية للطلاب وهذا من يشكل حملاً ثقيلاً على الميزانية ويدخل البلد في ورطة جديدة، فالرغم من أن المرحلة الحالية مرحلة انتقالية ومن المفترض أن تكون الميزانية مختلفة تماشياً مع الأوضاع التي أدت إلى قيام الثورة وخلع النظام، وترتكز على الاهتمام بمعيشة المواطن وتخفيض الأسعار واستقرار سعر الصرف، إلا أنها جاءت بزيادة أعباء على المواطن وارتفاع معدلات التضخم الذي يدفع ضريبته المواطن البسيط، وقال إن الارتفاع المتواصل في الأسعار هو ضريبة مستمرة لتمويل الحكومة من التضخم.
تضارب في الميزانية

وفي سياق متصل، أوضح الخبير الاقتصادي د. محمد الناير  أن الموازنة الأولى التي قُدّمت بها نموذجان للموازنة كان بها العديد من المغالطات في الأرقام خاطئة ومتضاربة مع بعضها البعض، هذا الأمر لا يشبه وزارة المالية على الإطلاق وحتى الآن تصريحات الوزير بها تضارب كبير جداً في الأرقام، الوزير تحدث عن عجز 150 مليار جنيه في الموازنة وهذا ليس العجز الحقيقي، ولكن يبدو أن الوزير يحسب التراكمات الخاصة في الاستدانة من النظام المصرفي في عهد النظام البائد، ويريد أن يضعها كعقبة أمام الجميع لكي يقول إن العجز كبير، وهو بالغ في وضع حجم الموازنة الكبير، وغير قابلة للتطبيق حتى الآن حجم الموازنة الموضوعة على أمل أنه يرفع الدعم ويدعم المجتمع الدولي الموازنة بصورة كبيرة، ولكن إضافة المديونية السابقة مع بنك السودان هي مسألة معيقة ومستمرة.

وأضاف: هناك عدم التزام من النظام السابق بسداد مديونية بنك السودان، لأن قانون بنك السودان يحتم أن أي مديونية تتجاوز الاستدانة من المفترض أن تسدد في الستة شهور الأولى من العام التالي، وهذه المديونية كبيرة لا يمكن أن يتحملها المواطن.

مبينًا أن وزير المالية أراد أن يوضح للناس أنه لا خيار غير رفع الدعم، وهذا يجعل الاقتصاد يلجأ إلى علم البدائل، ولابد من اختيار الخيار الأفْيَد والذي يخفف العبء على المواطن وتحسن المؤشرات الاقتصادية حتى ولو فيها مشقة للدولة في تطبيقها كتوسيع المظلة الضريبية أفقياً أو إدخال الذين يتهربون من الضرائب، وهذه الخيارات تحتاج لجهد كبير من قِبَل الدولة لكنها تفيد المواطن وتحسن مستوى المعيشة، أما أن نلجأ دائماً لتنفيذ روشتة صندوق النقد والبنك الدوليين بالحديث عن رفع الدعم بكل سهولة هذا هو الخيار الأسهل أي حكومة تجده سهلًا جداً، ولا تعاني من تطبيقه، لكن آثاره كارثية على الاقتصاد السوداني والمواطن، وقال إن المواطن وصل مرحلة لا يستطيع تحمل أي عبء إضافي عما هو عليه الآن من انفلات كبير في أسعار السلع والخدمات زيادات غير مسبوقة، وبالتالي تدنٍّ في الأجور لا تغطي إلا أياماً من الشهر، مشدداً على أهمية معالجة مشكلة الأجور .
لافتاً إلى أن رفع الدعم عن أي سلع استهلاكية أو محروقات خلال عام 2020م، هذا أمر يعتبر من المستحيلات لعدم الاستقرار الاقتصادي وعدم وجود المقومات الخاصة لرفع الدعم، لأنه يتطلب الاستقرار الاقتصادي وارتفاع دخل المواطن لمجابهة التطورات التي تطرأ على زيادة الأسعار فضلاً عن وجود آليات ضمان اجتماعي قوية وقادرة على امتصاص الآثار السالبة لهذه السياسات، ويتطلب أيضاً امتلاك الدولة شبكة مواصلات سواء كانت داخل العاصمة أو في الولايات تمكنها من تثبيت الأسعار في حالة رفعها من قبل القطاع الخاص وهو الذي يتحكم والدولة ليست لديها رقابة أو صلاحية لتحديد التسعيرة، وبالتالي لم تحسب الدولة الآثار السالبة لقرارات رفع الدعم  بل تفكر فقط في روشة صندوق النقد الدولي دون النظر لآثارها السالبة على المواطن.

معادلة مستحيلة

وقال وزير المالية إن رفع الدعم يحسن الموازنة ويؤدي إلى خفض التضخم، أنا لا أعرف كيف يتحدث وزير المالية، ولا أفهم هذه المعادلة، ولكن الشيء المعروف أن المعادلة زيادة التضخم، إذاً هو يعني أن رفع الدعم يعني سحب مزيد من السيولة من المواطنين أو الأسواق، وهذا حديث نظري في ظل اقتصاديات مختلفة عن الوضع الحالي، فالحديث هذا يمكن أن يقال في دول تتمتع بالاستقرار الاقتصادي وطيلة السنوات الماضية في عهد النظام البائد كانت نتائجه ارتفاع معدلات التضخم بصورة غير مسبوقة، فيجب على وزير المالية إعادة النظر في الأمر وفقاً للتجارب الماضية، وأنا أعتقد أن تجريب المجرب تكون نتائجه مختلفة، وعلى وزارة المالية إعادة دراستها والنتائج المترتبة على ذلك، وهل هي قادرة على التصدي لهذا الأمر أم لا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى