المفاوضات المُتعثّرة

 

*خادَعت  قوى الحرية والتغيير  نفسها  وخادَعت  الشعب  السوداني  عندما  ادّعت  قدرتها  على تحقيق  السلام وإيقاف  الحرب خلال  ستة  أشهر  فقط  من إسقاط  النظام،  وها هي  الأيام  تمضي  والشهور  تتسرب  من بين  سنوات  الفترة  الانتقالية،  وتقترب  حكومة  ما بعد  الإنقاذ  من بلوغ الشهر  التاسع  والأوضاع  على حالها.

مفاوضات  متعثرة  في جوبا  بين  الحكومة  ووفود  الحركات المسلحة  حول  قضية  لا تمس  جوهر  أسباب النزاع  ولا  عصب  مشكلات  الهامش،  ولا  مستقبل  السودان،  ولكنها  انحرفت  إلى مسارات  تجزئة  لا  تعبر  عن إرادة  حل  حقيقي  ينتظره  السودانيون  أو  بعض  منهم  إن شئت  الدقّة،  فهناك  مواطنون  في  بلادنا  لم يتذوقوا  مرارة  الحرب  ولا يعيرون  أحزان  ومأساة  الأطراف  التفاتة،  بل  يعتبرون  بائعة  الشاي  في  شوارع  الخرطوم  التي طردتها  الحرب  من مناطق  نشأتها  هي خُلقت  هكذا  لتصبح  كلتوم  وأم رخا  بائعة  شاي وأطعمة  وخلق  عيسى  جلدقون  ماسح  أحذية  وغسال  عربات  تحت  العمارات  الفارهة،  وأن الابتسامة  التي  يرسلها  عند  آخر  اليوم  حينما  تضع  في  يده  قليلاً  من الجنيهات  هي ابتسامة  رضا  بالحال  الذي  هو  عليه وليست  ابتسامة  للخبز  الذي  سيحصل  عليه  من ريع  غسل  العربات، وشتان  ما بين  ابتسامة  الرضا وابتسامة  الخبز.

قبل  أيام  لبَّيتُ  دعوة  من أحد  أبناء  الأهل  بجنوب  كردفان،  ضمّت  الدعوة  عشر  شخصيات اختلفت  تخصصاتهم  من ضابط  متقاعد،  وأستاذ  جامعي  وباحث  في  فض  النزاعات،  ومتمرد  سابق  وناشطين  في منظمات  حقوق الإنسان  والمجتمع  المدني  وشاب  دون  العشرين  عاد  لتوّه  من داخل  جبال  النوبة.

تشعّب  الحوار  الذي  امتد  حتى الساعات الأولى من الصباح  كما  يقول  الأستاذ  أحمد  البلال  الطيب  الصحافي  الرقم  العفيف  الشريف،  رغم  كيد  (القحّاتين) وتربُّص  الشيوعيين  وتلك  قصة  تطول،  ولكن  مفاوضات  جوبا  التي  لا  تجد  اهتماماً  كبيراً  من الإعلام  السوداني  رغم  وجود  عدد  كبير  من الصحافيين  هناك،  شكّلت  محور  اهتمام  المجتمعين.  وكان  السؤال  المفتاحي  هل  يُنتظر  من هذه  المفاوضات  تحقيق السلام؟ أم مجرد  حوارات  نُخَب  تحمل  السلاح  تنتهي  بمُحاصصة  مناصب  ومكافآت  وظيفية  على غرار  ما كان  يحدُث  في  سنوات  الإنقاذ  وتعاطيها  مع قضية  الحرب  باستثناء  طبعاً  اتفاقية  السلام  الشامل ٢٠٠٥؟

التي  خاطبت  قضية  الجنوب، وغبّشت  الرؤية حول  المنطقتين.

اتفق  الحضور  على أن المفاوضات  الحالية  لن تبلغ  مقاصدها  إلا  بهبوط  معجزة  سماوية  تنقل  حوار  النخب  الحالي  من الثنائيات  المدمرة  إلى حوار  شامل  حول  القضايا  القومية  من نظام الحكم  هل  هو  مركزي أم فيدرالي  أم حكم  ذاتي ؟ أم ما بين  هذا  وذاك؟ وقضية  هوية  الدولة  عربية  إسلامية  أم أفريقية  إسلامية  أم أفريقية  علمانية  أم عربية  علمانية  أم لا هذا  ولا ذاك ؟؟ مثل ما وردت  في الوثيقة  الدستورية  بلا  طعم  ولا رائحة  ولا هوية؟

وكيف  تضمن الحركة الشعبية  والجبهة  الثورية  التزام  الحكومة  التي  تأتي  ما بعد  الانتقالية  بالاتفاقية  لم توقع  عليها؟ وهل  تضمن  قوى الحرية والتغيير  وهي تحالف  مؤقت تماسكها  حتى الانتخابات والدخول  بقائمة واحدة  وفوز  تلك  القائمة؟ ولماذا  ظل  السلام  شأناً  حزبياً،  ولم  يتفق  أهل  السودان  على قومية  قضية  السلام  ومشاركة  كل  التيارات  السياسية  في  الساحة  في ملف  السلام؟

وهل  المكون  العسكري  حريص  على السلام  لأسباب  تكتيكية  أم استراتيجية؟ وهل  ملف  السلام  مُتوافَق  عليه  داخل  المكون  العسكري  نفسه  أي  بين  مرجعيات  البرهان  ومرجعيات  حميدتي؟

قبل  أن تتشعب  الإجابة  من الحضور  على هذه  الأسئلة  شديدة  التعقيد  قدم  إلينا  صاحب  الدار  الأستاذ  الجامعي  شقيقه  الأصغر  وهو  ضابط  في الجيش  الشعبي  زار  الخرطوم  لأول  مرة  الشهر  الماضي  وأصغى  لحديثنا  جيداً  وكان  ينظر  إلى الحضور  بين الريبة  ويرسل  أحياناً  ابتسامة  ساخرة  لبعض  الأقوال.

قدم  نفسه  كضحية  من ضحايا  الحرب  الأولى والحرب  الثانية،  ولكنه قفز  مسرعًا إلى طرح سؤال  مباغت لنا:  لماذا  نطالب  نحن  في  الحركة الشعبية  بحق  تقرير المصير  لنا  ولبقية  المهمشين  في  السودان؟ يقول  توتو  أنا  لا أشعر  بأي  انتماء  للسودان  الذي  تمجدونه، عمري  الآن  حوالي  ٢٢ سنة  ولدت  تحت  شجرة  بعد  أن احترقت  القطية  التي  نملكها  بوابل  قذائف  أرسلتها  الخرطوم  للتخلّص  منا  كبشر  لم نقاتلها، لكنها  أي  الخرطوم  وحكامها  الطغاة  تعتبرنا  أعداء  لها  باللون  والجنس،  أنا  لا أنتمي  للسودان  الحالي  أنا  أنتمي  للمقهورين  بالرصاص  وقذائف  الأنتنوف  التي  عندما  يسمع  الأطفال  صوتها  يلوذون  بالحفر  في  باطن  الأرض،  وأحيانا  يتسابق  الأطفال  والماعز  إلى الملاجئ  خوفاً  ورعباً  من حمم  الموت  التي  يبعث  بها  إلينا  حكام الخرطوم  من الصادق المهدي  وحتى البشير،  وعندما  نتسابق  مع حيواناتنا  إلى الملاجئ  نترك  الحمير  وحدها  مربوطة  تحت  جذوع  الأشجار  وهي لا تملك  القدرة  على الاختباء، ولكنها  تنهق  بصوت  حزين  وتبكي  من غير دموع  لتواجه  الرصاص  واللهب  والمسامير  التي  يريدون  غرسها  في رؤوسنا.

ماذا  قدّمت  لنا  الخرطوم  غير الموت؟ لقد  أرغمنا  قادة  الحركة  الشعبية  على تغيير  مواقفهم  من وحدة  السودان  إلى  الحكم  الذاتي  الذي  رفضه  حكام  الخرطوم  فرفضناه  نحن  أيضاً وطالبنا  فقط  بحق  تقرير المصير  كحق  إنساني  أقرته  المواثيق  الدولية،  وإذا  رفضت  الخرطوم  حق  تقرير المصير  سنقاتل  من أجل  الانفصال  فقط  من كرامتنا  كبشر  تعرض  لكل  أنواع  الإذلال  والقمع  والاضطهاد  وسلب  الحقوق.

مضى  الشاب  يسأل:  أنا  لا أشك  في  عدالة  رب  العالمين،  ولكن  لماذا  لا يملك  تاجر  واحد  من جبال  النوبة  شركة  كبيرة  تعمل  في  التجارة  والاستيراد  منذ  الاستقلال  وحتى  الآن،  ولماذا  لا  تجد  من شعب  كامل  وإقليم  برمته  عشرة  أشخاص  يملكون  عمارات  في الخرطوم،  ولماذا  نساء  النوبة  والبقارة  والفور  وحدهن  يعملن  في صناعة  الأطعمة  خدماً  في البيوت  ولا تعمل  امرأة  واحدة  من قبائل  الشمال  في مثل  هذه  المهن  الوضيعة؟ هل  الشمال  أغنى  من حيث  الموارد  من جبال  النوبة؟؟ أم  هي  اختلالات  في السياسات  الاجتماعية، ولماذا  يقطن  القادمون  من مناطق  الحروب  في  كنتونات  صغيرة  بائسة  في أطراف  الخرطوم  ويسخر  أبناء تلك  المناطق  للتنكيل  بأهلهم؟

بُهت  الجميع  من هول  ماي سمعون، ولكنهم  أدركوا  حقيقة  واحدة  أن الملايين  من الشباب الذين  ولدوا  في سنوات  الحرب  وتحت  وابل  الرصاص  وقذائف  الهاون  وأزير  الطائرات  قد  حفرت  الحرب  في نفوسهم  جروحاً عميقة  ولن تندمل  باتفاقيات  المحاصصة  التي  توقعها  الأطراف  المتحاربة  وكل  طرف  يخفي  نصف  أجندته  إلى يوم  يراه  قادماً.

إن مفاوضات  جوبا  الحالية  إذا  ما تم  التوصل  لاتفاقيات  مع أطرافها  المُتعدّدة  ستعجز  الخرطوم  أيما  عجز  عن تنفيذها،  وأخشي  على وفد  مجلس  السيادة  أن يوقع  على اتفاقيات  غير  قابلة  للتنفيذ  وتصيب  الساحة  الوطنية  بنكسة  جديدة  تمزق  ما تبقى  من وطن  قابل  أصلاً  للتمزق  والاندثار  من خارطة  الوجود.

ونواصل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى