مسيرة ومحكمة (2)

 

بعد نجاح مسيرة التيار الإسلامي العريض واستعادة زمام المبادرة في الشارع، وإثبات خطل مزاعم أبواق قوى الحرية والتغيير بأن الإسلاميين قد فاتهم قطار المستقبل وسباق الديمقراطية القادم، ها هي مسيرة السبت تؤكد أن هذا التيار العريض قادر على النهوض من رماد الهزيمة التي ألحقها به البشير إلى العودة منتصراً مستفيداً من تطرف خصومه، وإثبات ضيقهم بالديمقراطية ونكوصهم عن ما نثروا من شعارات عن قيم الحرية والعدالة والمساواة وهم عنها اليوم أبعد من كوكب زحل عن الأرض..

لم يتوفر لسياسي سوداني اجماع داخلي مثلما نال رئيس الوزراء الحالي د. عبد الله حمدوك، ولم تتعلق آمال السودانيين بقيادي ظنوا فيه صفات “المخلص” من جحيم الواقع مثلما أحسنوا الظن في حمدوك الذي حمله اليسار على أكتافه وصفق له اليمين بأكفه، ولكن حمدوك في شهور محدودة بدأ يخسر رصيده في بنك المؤيدين والمعلقين عليه الآمال بعد أن بات رهينة ومطية في يد الحزب الشيوعي والبعث والحزب الجمهوري، وركل حمدوك أغلبية التيار الإسلامي والتيار الوسطي وابتعد حتى عن المؤتمر السوداني الذي يمثل رمزية الثورة والتغيير بحساب البلاء والتضحية، لم يعد متوافقاً معه وتماهى مع الإقصائيين الساعين لإشعال حريق في الشارع يقضي على السودان الحالي، ظناً منهم أن الصراعات تهيئ المسرح لقفزة يسارية أكثر راديكالية من ما تحقق لهم بفضل ثورة الشباب السوداني..

وحكومة حمدوك التي تواجه تعقيدات اقتصادية موروثة وجدت نفسها في مفترق طرق إما أن تمضي في إصلاح الاقتصاد وفق النظرية الغربية وتتحمل تبعات ذلك من احتجاجات في الشارع رفضاً لشروط الغرب وصناديقه برفع الدعم عن السلع الأساسية مقابل وعود بدعومات طويلة الأمد، وإما الركون للواقع الحالي و”منافقة” الجماهير وتحمل تبعات الإبقاء على دعم السلع وانتظار الأسوأ في مقبل الأيام..!

من جهة الإسلاميين، فإن إحالة الرئيس السابق إلى “الإصلاحية” مسجوناً في قضية التعامل بالنقد الأجنبي، فالنظر إلى هذه القضية من جهة الشهور الـ 24 التي يمضيها البشير في دار الرعاية الاجتماعية نظرة “قاصرة” جداً.. لأن الإدانة القضائية تمثل رادعاً معنوياً وحكماً قاسياً لرجل ظل يعد الناس بإصلاح الشأن العام وبعد ثلاثين عاماً من الحكم يجد نفسه محكوماً عليه بالبقاء في الإصلاحية والصحيح دار الرعاية.. وبهذا الحكم انطوت صفحة البشير، وعلى عاتق التيار الإسلامي بحث مستقبله وإعادة قراءة واقعه بمعطيات العصر الحديث ومخاطبة السودانيين بغير هتافات الأمس التي قبرت وانتهت إلى ما انتهت إليه..

أما على صعيد قوى الحرية، فإن لها أن تسمع نصائح الناصحين وأولهم ياسر عرمان والإمام الصادق المهدي، وتقرأ الساحة جيداً.. وتنظر لمطالب السيد الميرغني بضرورة المصالحة الوطنية الشاملة كترياق “لصوملة” السودان و”لبننته” أو أفغنته، وتلك تجارب إنسانية في غاية البؤس مبذولة لمن يقرأ ويعتبر من دروس الآخرين للإبقاء على وطن شقي بقادته أكثر من تعاسته بمؤامرات الخارج..

وللحركات المسلحة دور في رسم مستقبل البلاد السياسي والنأي بها عن مزالق التمزق إذا ما تواضعت على اتفاق سياسي يخاطب جذور أزمات البلاد كرقعة جغرافية لا كاتفاقيات لحل مشاكل حاملي السلاح وترك النصف الآخر للأقدار وغرائب الصدف..!

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى