تصفية الحسابات

 

*قبل أقل من عام بقليل كان الأطفال في الأحياء والأزقة يهتفون “حرية.. سلام..عدالة” وإن سألتهم عن معنى هذا الشعار لا يجيبون لأنهم لا يعرفون معنى الحرية في الآراء والسلام في ربوع ، والعدالة في قسمة السلطة والموارد والخدمات، قد يعلم من يكبرهم سناً معنى هذه الكلمات، ولكن الكثير من صغار السن لا يعلمون تفاصيل الحرية ومغزاها.

*في تلك الأيام كانت الشوارع مغلقة “متاريس” في كل منطقة من أحياء الخرطوم، وكذلك الطرق الرئيسية، وأذكر جيداً في أحد الأيام كنت عائدا للمنزل في منتصف الليل، ووجدت شارع الحرية مغلقاً ففضلت العودة لأخذ مسار آخر، ولكنني تفاجأت بأن الطريق خلفي أيضاً مغلق، فترجلت عن السيارة وأدرت نقاشاً مع أحدهم وكان صغير السن عن سبب إغلاقه للشارع، فقال لي إن شقيقه توفي في المظاهرات، لذلك هو يغلق الطريق، فقلت له، ولكنك الآن وضعنا في منتصف أمامنا مغلق وكذلك خلفنا مغلق، ففي رأيك ما هو الحل، صمت قليلاً ثم اعتذر وفتح لنا الطريق.

*الكثير من الشباب الذين كانوا يغلقون الطرق بالمتاريس تعبيراً عن رفضهم لما يحدث في تلك الأيام كانوا “يحلمون” بأوضاع اقتصادية أفضل من التي ولدوا فيها وتعلموا من خلالها، كانوا يمنون أنفسهم بحرية “مضبوطة” للرأي والرأي الآخر، كانوا يتمنون أن يصبح السودان دولة مؤسسات تحكمها القوانين لا دولة تدار بالمزاج وتصفية الحسابات.

*منذ رحيل حكومة الإنقاذ في أبريل من هذا العام، وحتى اليوم الأوضاع الاقتصادية تزداد سوءاً، لم نشهد انفراجاً عدا في أزمة السيولة، وفي ما عداها كل شيء أصبح متأزماً، الجنيه في كل يوم تضعف قيمته، والأسعار عند كل صباح ترتفع والمرتبات كما هي لا تشهد زيادة.

*منذ تشكيل الحكومة الانتقالية وحتى اليوم كل التركيز على حل المؤتمر الوطني ومحاسبة رموز النظام السابق، وفتح بلاغات في الفاسدين ومنفذي انقلاب الإنقاذ، والتركيز على الصحف التي كانت تدعم النظام السابق إعلامياً.. و… و.. قائمة طويلة من المواضيع التي تركز عليها الحكومة الانتقالية وهي غافلة عن الأوضاع الاقتصادية ومحاولة السيطرة على الدولار وارتفاعه الجنوني.

*أستغرب جداً عن مناداة البعض بمحاسبة الصحف التي كانت تدعم النظام السابق ومحاولة إغلاقها أو تجفيف مواردها، وإن نظرنا إلى هذه الصحف لوجدنا جلها كانت ترافق الرئيس السابق في رحلاته الخارجية والداخلية وجلها كانت تسافر للولايات لمقابلة الولاة وعكس أنشطتهم المختلفة، حتى الصحف التى كانت تدعي معارضة النظام السابق كانت تغطي أنشطة الحكومة المختلفة.

*واليوم يتكرر نفس المشهد، فذات الصحف التي كانت مع النظام السابق – كما يراها البعض- فهي اليوم مع الحكومة الانتقالية والثورة، وإن سارت الحكومة الانتقالية بذات النهج في “التشفي” وتصفية الحسابات فسيكون حصادها صفراً كبيراً وفشلاً ذريعاً.

*شباب الثورة الذي خرج في الشوارع وواجه الموت يريد تحسين الأوضاع الاقتصادية ورفع المعاناة عن كاهله قبل أن تصفي “قحت” حساباتها مع الحكومة السابقة ورموزها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى