مفوضية السلام وقيمة البحث عن السلام

يظل السلام والأمن، هما الحل الوحيد والأنجع والأهم للاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهذه العوامل هي المساعد الأكبر في تحقيق التنمية الدائمة، والعدالة في توزيع الموارد، وتطوير وزيادة آليات الإنتاج في مجالاته المختلفة، إذ أن التجارب السابقة في الحرب والصراعات المسلحة، أثبتت أنه لا تنمية، ولا استقرار، ولا إنتاج، ولا تسويق وتبادلات تجارية في ظل الحرب والصراعات المسلحة، والنزاعات القبلية، والهشاشة التي أصابت علاقات ووشائج النسيج الاجتماعي، فتضعضعت وصلات الثقة، وانبتت حبال الوصل والود الاجتماعي بين المكونات الاجتماعية والقبلية، ولا سبيل لعودة هذه المياه لمجاريها الطبيعية إلا بتحقيق الوئام والود، وعودة التلاقي عبر بوابة السلام الذي يحقق الأمان في القلوب وواقع الحياة، عندما ينزع مظاهر الجفوة والكراهية والأحقاد، والشعور بالغبن والظلم والتهميش، ويستبدلها بالمسامحة والمصالحة، ونبذ تركة الماضي المريرة بتجلياتها المختلفة وراء الظهور .

يوشك المجلسان… السيادي، ومجلس الوزراء في حكومة الدكتور عبد الله حمدوك أن يصدرا قراراً بتكوين مفوضية السلام، وهذا القرار يأتي تلبية لمقاصد الثورة الشعبية، والتزاماً بما قطعه المجلس السيادي من وعد للشعب أن أولوية حكومة الفترة الانتقالية في شهورها الستة الأوائل، هي أولوية تحقيق السلام والاستقرار حتى تتهيأ البلاد لعهد جديد تسود فيه العدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية. لكن هذا القرار تأخر ولم يصدر حتى الآن،  وأكد السيد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذي جاء في وقت حرج من مخاض التحول الثوري نحو الشرعية التعددية، إلا أن المفارقة الجديدة في مسار الحياة السياسية في السودان ﻷول مرة وجد حمدوك نفسه مرحباً به ومجمعاً عليه من قبل القوى السياسية الحزبية، والقوى الشعبية المجتمعية، والثوار، بنسبة تفوق التسعين بالمائة، وهذه ميزة جديدة لم تتوفر لغيره من من قبل، مما يعني أن السيد حمدوك الخبير الأممي المعروف أمام حقبة تاريخية مهمة يستطيع من خلالها الاستفادة من أجواء الإجماع الوطني غير المسبوق، لصناعة واقع جديد في السلام والتنمية،  إذا أدرك هذا الحقيقة وخرج من تأثيرات مجموعة ضغطه الصغيرة.

 ومما زاد الثقة وتنامي مؤشرات الآمال الشعبية الخطاب السياسي المتوازن والشجاع والموضوعي الذي قدمه حمدوك حتى الآن بمفردات محددة، ولغة هادئة مؤثرة تميل إلى الموضوعية والتروي والقراءة المتأنية، كقوله نريد أن نتفق على كيف يحكم السودان، ونترك خيار من يحكم السودان لهذا الشعب العظيم، وقوله نريد أن نتفق كيف ندير خلافاتنا، وقوله نريد أن نبني نظاماً ديمقراطياً تعددياً، وآخر أقواله أمس القريب إنه لا يتعامل برد فعل تعسفي في الخدمة المدنية، وأمثلة كثيرة من مفردات خطابه المتوازن الذي أثلج صدور أناسي كثر، وشفى صدور قوم مغبونين ومحبطين.

 ولعل هذه المؤشرات في قبول الخطاب السياسي العام لرئيس الوزراء تمثل الحلقة الأهم في ترميم هوات عميقة سحيقة بين فرقاء السودان في الحركات المسلحة، والقوى السياسية المعارضة، وإن لم نر حتى برنامجاً عملياً لترجمة هذا الخطاب في الواقع.

 ولعل تصريح عبد العزيز الحلو الإيجابي ﻷول مرة بقبوله الدخول في مفاوضات مباشرة،  وحوار مع الحكومة الجديدة يعد مؤشراً متقدماً لمواقف الحلو السابقة التي تميزت بالجمود والعناد الشديدين، رغم طرحه فكرة علمانية الدولة أو تقرير المصير للمنطقتين، وهو أمر مرفوض لأهل المصلحة في المنطقتين،  وسوف يدفع الحلو ثمناً غالياً إن حاول الإصرار على موقفه المرفوض أقله الطرد نهائياً من رئاسة الحركة الشعبية كما حدث لعرمان وعقار، وهو مثلهما فقد ظل مختطفاً لملف جنوب كردفان رغم انتهاء أصوله إلى دارفور وليس كردفان!  وكذلك الموقف القوي للجبهة الثورية التي وقفت بقوة تحرس قضية تضمين ملف السلام في الوثيقة الدستورية، وهو موقف نالت به الجبهة الثورية  مساحة غير متوقعة في جغرافية مناطق الحرب والصراع المسلح، وكذلك الموقف الإيجابي ﻷول مرة لعبد الواحد محمد نور رئيس حركة تحرير السودان، الذي أعلن إنهاء حركته العمل المسلح والتزامها بالمعارضة والعمل السياسي المدني، وهو أحد الذين ظلوا خميرة غير قابلة للتماسك لصناعة عجينة وطنية موحدة، فرغم ضعفه العسكري كان له صدى إعلامي وسياسي مزعج في ملف السلام.

وعندما نقرأ التغيير في مؤشرات هذا التحول نجد أن أولى أسباب هذا التحول… تحول القوى المسلحة الفاعلة نحو السلام، الخطاب السحري الذي بدأ به السيد رئيس الوزراء عمله وتأكيده الأخلاقي بتطبيق مبدأ القانون على الجميع بقوة القانون، لا بقانون القوة، وإعلانه القوي يوم مجيئه بعد أداء القسم أنه يمثل كل السودانيين، وظهوره المتواضع في المناسبات العامة… حدثني أحد المواطنين المثقفين قال لي: ﻷول مرة وأنا متابع لمسيرة العمل السياسي السوداني أرى رئيس وزراء مرتدياً ملابس عادية (بنطلون وقميص)، وذلك من خلال زيارة حمدوك لمتضرري السيول والفيضانات في ود رملي شمالي الخرطوم بحري،  وكذلك مظهره في زيارة الفاشر الأخيرة التي أثارت ـ أيضاً ـ جدلاً واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الأهم مطلوب من السيد رئيس الوزراء الالتزام بمفردات خطابه الأول.

إن صناعة السلام الحقيقي تبدأ بتوفير الوئام والثقة بين أطراف الحوار، وتوحيد الرأي حول مشكلات النزاع والصراع، وتقديم الحلول التي تعالج المشكلة العامة لا الخاصة بشكل جذري غير قابل للانتكاسة… لقد بذلنا طوال فترة الحرب والصراع المسلح الذي تجاوز نصف قرن من الزمان جهوداً كبيرة، وحلق المفاوض السوداني باحثًا عن السلام في الأجواء الإقليمية والدولية، وقطع الفيافي والمفازات، وركب البحر والمحيطات في وفود عديدة بحثاً عن السلام والوفاق الوطني والاستقرار، ولكن ما تحقق ضئيل مقارنة بالأوقات والأموال والجهود التي بذلت، وقامت للسلام مستشارية وإدارات ومكاتب، ولكن فشلت الأدوات والوسائل في الوصول إلى الهدف، حيث كانت العلة في القرارات والمواقف والتقديرات الخاطئة، وتجاهل القضايا الحقيقية في الحوار والنقاش، فضلاً عن وجود مصالح ضيقة صنعت جنرالات حرب وتجار أسلحة، وتجار سلع في حدود ومناطق الصراعات آثروا مصالحهم الخاصة في الغنى بالموارد المهملة في مناطق الصراع والنزاع من معادن وذهب وثروة حيوانية وصمغ عربي وزراعة على حساب سلام وتنمية وتقدم الوطن، وساعدهم على ذلك العناد الخطاب السياسي غير الرشيد والمواقف والانفعالات غير المدروسة للدولة التي عمقت شقة الخلاف، فضلاً عن الحوارات والاتفاقيات الثنائية الإقصائية التي قدمت حلولاً جزئية آنية كما جرى في اتفاقية نيفاشا.

إن من الضروري في قيام مفوضية السلام التي اعتمدها الحوار الوطني من قبل  – والذي جاءت توصياته ومقرراته في 994 توصية ومقررة – بجانب مفوضيات أخرى كمفوضية الأراضي ومفوضية توزيع الموارد وغيرهما، وكانت في الحوار الوطني لجنة خاصة للسلام، هي لجنة الوحدة والسلام، وخرج لها كتيب ضمن كتب مخرجات الحوار الوطني يمكن الاستفادة منه، ﻷنها شكلت رأياً جمعياً وقتها… كما أنه لابد من ضم أمراء الإدارة الأهلية بجانب الحكماء والخبراء والمهنيين والمختصين في مجالات السلام والتفاوض في مفوضية السلام، على أن يمثل عمد ومشايخ الإدارة الأهلية في فرعيات المفوضية على مستوى الولايات والمحليات، ونريد أن تكون مفوضية ميدانية عملية تغشى المدن والقرى والفرقان والأرياف والبوادي تناشد وتنادي الفرقاء وتصلح بينهم، وتبني ما خربته الأيام… تبني النفوس والمعاني قبل المباني والعمران، لا مفوضية مركزية بروقراطية تدير أنشطتها من الخرطوم عبر التقارير والتلفون والأوصاف المزعومة، إذ أن قيمة البحث عن السلام تحتاج إلى عقل مدبر حكيم، وإخلاص وتفانٍ في العمل ، وصبر جميل من أجل وطن جريح ظل ينادي أبناءه الأوفياء، وقد قعدت به الصراعات والشقاقات من أن ينطلق نحو الثريا، وهو على ذلك قادر بإذن الله تعالى…

وبالله التوفيق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى