مسامرات الخبز

عندما يقف السودانيون طويلاً في صفوف متطاولة يتوقون فقط لقطع من الخبز الحافي ينثرون بينهم القصص والحكايات بعضهم يجتر أوضاعاً غابرة يرونها جميلة وانصرفت والماضي لا يعود.. وتتبدى الانقسامات السياسية ما بين ساخط على الحاضر والماضي.. ومتفائل بالمستقبل القادم.. في وسط الصف خرج شاب ثلاثيني بدعوة لاقتسام الخبز بعدالة حتى يحصل كل “الواقفين” في الصف على بعض الخبز.. بعد أن استحوذ البعض على كميات كبيرة من الرغيف وتركوا الواقفين من بعدهم ينظرون لعامل الخبز الذي تتلطف معه النساء ويتوددن إليه بابتسامات خادعة لنيل رضائه من أجل الخبز “الغالي” زهيد الثمن..

 الشاب دعا لقسمة يراها عادلة بأن ينال الشخص الواحد فقط ثلاثين رغيفة!! بدلاً من الهجمة على الطاولة من بعض المقتدرين الذين يشتري أحدهم رغيفاً بمائة جنيه وآخر بخمسين جنيهاً.. وجد الاقتراح معارضة من سيدة خمسينية وقدمت دفوعات تبرر رفضها بأن الرغيف تناقص وزنه وأصبحت أصغر أسرة تشتري أربعين قطعة  حتى يجد طلاب المدارس رغيف الحشوة في الصباح وتدخر الأسرة بضع “رغيفات” لإفطاراليوم التالي.. رفض رجل كبير في السن أرهقه الوقوف على قدميه المتعبتين من شقاء السنين فجلس على كرسي ينظر لنافذة مخبز مول الحوش بأم درمان وهو مخبز يصنع رغيفًا جيداً يليق برواد الحوش.. الشيخ الهرم رفض مبدأ تحديد سقف أعلى للمواطنين باعتبار حاجة الأسرة الكبيرة لعدد لا يقل عن (70) رغيفة في اليوم..

فتاة دون الثلاثين أضفى الحجاب عليها وقاراً وحشمة ساندت الرأي القائل بأن أزمة الخبز الحالية لا سبيل لتجاوزها إلا بقرار يحرر الرغيف والجازولين والبنزين.. واحتدم الحوار عن عدالة أو ظلم الدعم الذي تقدمه الدولة لسكان المدن وخاصة الخرطوم التي تستأثر بنسبة 47% من الدقيق المدعوم والولايات نصيبها من الدعم 53% ورفض البعض مبدأ رفع الدعم الذي يصعد بسعر الرغيفة الواحدة إلى ثلاثة جنيهات بالخرطوم وربما خمسة جنيهات في الولايات!!

انتقد شاب النساء بقسوة لرفضهن بدائل الكسرة والقراصة والعصيدة.. وتصدت إليه امرأة ترتدي ثوباً أبيض دليلاً على أنها من طبقة الموظفين، وقالت إن القراصة والكسرة كلفتها عالية وليس بمقدور المرأة العاملة (عواسة) الكسرة و(صواطة) العصيدة!!

ليت وزير المالية وصناع القرار في بلدي يصغون لمثل هذه المناقشات العفوية وسط السودانيين في محنتهم مع الخبز قبل الحرية.. ومن ثم البحث عن حلول واقعية لقضايا الخبز والخدمات، ولكن وزير المالية بعد جلوسه على الكرسي الوثير تبدلت قناعاته وتخلى عن رؤية عبر عنها مراراً في السنوات الماضية بأن الإصلاح الهيكلي للاقتصاد يتطلب رفع الدعم عن المحروقات والخبز حتى يتعافى اقتصاد بلادنا، ولكن الوزير نظر وقدر بأن مثل هذه الجراحات الصعبة ستضعه في عين العاصفة..

حكومة حمدوك تملك سنداً جماهيرياً كبيراً.. واستثمار هذه الجماهير الآن من شأنه تحقيق أهداف الثورة في النهوض بالاقتصاد ولن يتحقق ذلك بغير جراحات مؤلمة ليتعافى الجسد العليل!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى