من أغنيات التراث ..

فارس الحديد الحمي

كتب : خالد الشيخ حاج محمود

أصبح السودان رقماً يتردد بين الشعوب والأمم بعد معركة شيكان والتي كانت قاصمة الظهر للاستعمار التركي بالبلاد، ونتيجة لذلك جاءت الوفود من كل البقاع مهنئة ومباركة ومؤيدة للإمام المهدي، لقد غدت شيكان نقطة تحول هامة في مسار الثورة المهدية، ولقد عمل الإمام المهدي على الاتصال بقيادات القبائل والمشائخ والطرق الدينية، وكان السيد المكي ابن الشيخ إسماعيل الولي أول المؤيدين له، بل كان همزة الوصل بينه والزعماء والأعيان، حيث انضم نفرٌ كريم للثورة المهدية بمدينة الأبيض منهم على سبيل المثال (إلياس باشا أمبرير)، كما كان لمنشورات الإمام المهدي دورها الكبير في نشر الدعوة الجهرية وما ساعد على ذلك صفات المهدي الشخصية والقيادية وامتلاكه كاريزما أثرت على الجماعات والأفراد، وقد وصفه سلاطين باشا بقوله: (هو رجل قوي البنية طويل القامة عريض الكتفين ضخم الرأس يلفت النظر إليه بعينين عسليتين براقتين تحف بوجهه لحية حالكة السواد وتميزه ثلاث فصائد قبلية مائلة، دائم الابتسامة. 

أما طريقته في إدارة المعارك فإنه كان يعتلي ظهر ناقته ويسير بها خلف الجيش حتى يصبح على مرأى من العدو بعدها تتقدم رأيته حسب المخطط بينه وبين قادته، وقد لخص الكردفاني إدارته للمعارك نقلاً عنه فقال : (في حالة الحرابة أكون خلف أصحابي، وعند الفزعة أكون وسط الجيش، وفي حالة التوجه لأي موقع أكون خلفهم لأن نظري لهم خير من نظرهم لي) ، وعندما استولى الإمام المهدي على الأبيض في  18يناير 1883م أصبح خطراً كبيراً على الاستعمار لأنه لا شك سوف يزحف لتحرير الخرطوم، مما استدعى إرسال حملة كبيرة للقضاء عليه بقيادة الجنرال هكس باشا ونائبه القائد العام علاء الدين حكمدار السودان آنذاك، ورئيس الأركان فرك هار والكابتن هرلث من هيئة الأركان، وعباس باشا سكرتير حكمدار السودان، وميخائيل ناصف مترجم وسكرتير القائد العام، وكان قوام الحملة عشرين ألفاً من البشر والدواب، مما قلل من سرعة تحركها حيث كان الدويم منطقة الانطلاق عبر طريق الرهد الأبيض وكان أول حدث جلل في نقطة شات هو هروب الأمباشي (أبو الفارس سليمان) بجمل سريع ومعه ذخيرته وسلاحه خاصة وهو على علم بحال الحملة وإشكالاتها واختلاف قوادها وانضم للمهدي بكردفان مما جعل المهدي يعين الأمراء الثلاثة (أبوقرجة وعبد الحليم مساعد وعمر الياس أمبرير) في قوة قوامها ثلاث آلاف مقاتل لمناوشة الحملة، ولكن العبء الأكبر وقع على الأمير حمدان أبوعنجة قائد الجهادية من خلال إدارته لمعركة اعتراضية بعد إصداره أوامره للقادة (فضل المولى صابون – الزاكي طمل – النور عنقرة) برشق المربع الحربي لهكس دون توقف وقد اشتهرت تلك الليلة (بليلة حمدان) والتي وصفها المحلل العسكري العقيد (محمد سليمان أحمد) في تحليله لمعركة شيكان بأنها كانت معزوفة لحن ما قبل الختام، لأنها كانت يوم الأحد الرابع من نوفمبر 1983م، حيث أن أصداء نيران الجهادية ترددت في جنبات زريبة هكس باشا بغابة شيكان مما أوضح بجلاء مصير تلك الحملة وأجلها المحتوم، إذ تلاشت آمال الجنرال في النصر أو النجاة مع إسدال الظلام عن تلك الليلة، فكانت الهزيمة في نهار الإثنين 5/نوفمبر/1883م واغتيال الجنرال هكس ومعه قوته البالغة ثلاثة عشر ألف جندي، فيما خسرت قوات المهدية مائتي قتيل فقط، لذلك كان للجهادية الدور الكبير في حسم معركة شيكان مع آخرين.

 وبانتهاء المعركة انتقل المهدي من مرحلة الدفاع إلى الهجوم ويمم شطره صوب الخرطوم، كما أشار لذلك شيخ شعراء كردفان قاسم عثمان بريمة في أوبريت شيكان بقوله : 

نضفوا كردفان والله أكبر دوت     **    شدوا الصافات قدَّام صقورهم خــوت

وصلوا البقعة وكتين البنادق عوت      ** عاسوا عوسهم تمام أمانة الحراب ما سوت

سجل التاريخ حكايتو بين القصر والخيمة    * وكانت ليلة حارة واليوم وجـب فخيمه  

شبعت صقوراً وقدلت أم مـارخيمه  ** وكانت الجثة في القصر والرأس في باب الخيمة

ومن حظ (هكس وغردون) العاثر أن أوقعهما القدر أمام قوة شعب مجاهد عرف بالثبات في المحاص كما وصفته (بنونة بت محمد ود نمر) حينما رثت شقيقها عمارة ود المك فقالت: 

في الديوان دخل ما هو العرور البوص * للسردار نتر ودا الجواب مخصوص 

إيدك وابل أم برقاً بشيل حرقوص      * يا ضراب عراطم الدندنة أم عركوس 

لكن سرعان ما ترنحت الثورة المهدية بعد وفاة الإمام المهدي في 22/يونيو/1885م، وأحاطت بخلفه الخليفة عبد الله العديد من الإشكالات والخلافات وتفاقمت الأمور مع هزيمة جيش عثمان دقنة من الأحباش عام 1885م كما نشب تمرد في الغرب مع انتشار السنوسية في شمال إفريقيا، ولكن جيش الخليفة عاد بقوة وهزم الأحباش في (قندار) وقتل الملك (يوحنا) نجاشي الأحباش في القلابات، ومن ثم تفرغ الخليفة لغزو مصر في عام 1889م بجيش أسندت قيادته للأمير عبد الرحمن النجومي والذي التحم في 3/أغسطس من نفس العام مع جيش السردار (قرانفيل) في توشكي واستشهد ود النجومي مع ألف ومائتين من رجاله وأسر أربعة آلاف من محاربيه، لكن الدولة المهدية أحاطت بها مشاكل عديدة من تفشي للأمراض وتوقف للزراعة فحلت المجاعات وانفرط تبعاً لذلك عقد الأمن والنظام فتحولت بعض القوات النظامية للسلب، وفي حوالي عام 1890م هجمت قوة من الجهادية على منطقة (أم مغد) التي أسسها (عبد الله الدسيس) وكانت تلك الهجمة بقصد السلب، ولقد كانت الحراسة في تلك الليلة التي شهدت الأحداث على عمدة المنطقة (البخيت ود بابكر ضحوي)، وبالرغم من ذلك قام الجهادية بنهب مجموعة من الأبقار خاصة شقيقته الشاعرة الميرم (النور بت بابكر ضحوي) والتي هبت إلى ديوان شقيقها (البخيت) مخاطبة له بقولها (إت مصنقر راقد وأنا بقري سرقن) فما كان منه إلا أن شد حصانه لوحده وكانت هي من خلفه تحمل عودين وسرعان ما لحق البخيت بالقوة الغاشمة بالقرب من منطقة (ألتي) ودخل معها في عركة كبيرة لكنه ضرب في وجهه في بداية النزال، وعندما وصل النبأ إلى القرية شمر أشقاء البخيت وأبناء عمومته وأهله العوضية عن سواعدهم ولحق فزعهم بالقوة الباغية والتي هزموها تماماً وقاموا بإرجاع الأبقار إلى زريبة الشاعرة النور بعد لطام حقيقي سالت فيه الدماء ركب، مما حرك أحاسيس ووجدان الشاعرة (النور بت بابكر ضحوي) والتي كانت مزهوة بالنصر والفال فألفت قصيدة رائعة وصفت فيها بسالة البخيت وفرسان منطقتها وذلك حسب إفادة مجموعة من الباحثين بالمنطقة منهم المــــؤرخ :

 (علي أبوزيد بابكر البخيت) حفيد البخيت ود بابكر والأستاذ عوض الله فضل السيد أحمد عوض الكريم كلاهما من منطقة (أم مغد)، ولما ذاع صيت القصيدة أصبحت من أغنيات التراث الشعبي المشهورة بالبلاد  لا سيما عندما تغنى بها الفنان الكبير الراحل (خلف الله حمد)، وقد عرفت باسم (فارس الحديد الحمي) والتي استهلتها الشاعرة بقولها: 

ما حرسو الجري وصدرك موشح بالدمي * ما بخاف فارس الحديد الحمي 

يا فــارس الألوف الإت كفيتن        * وكبست الدروع وشلعت خـــوداتن 

فارسنــا البخيت التم شكراتن        * وصديت الخيول وقمحت ركباتن

    ما بخاف فارس الحديد الحمي

من قومة الجهل الخوف ولا قسمو   * ومتبون في المحاص وفي الدود كتر عشمو

بدخل فوق بكاناً النحاس خلف شتمو * وركز البخيت الفال والنصــر ختمــو 

من قومة الجهل الخوف ولا كارو   * والهوي والشرق إتصنعو أفعـــــالو 

العوق أب صفوف قالوا البخيت شالوا * مضروب في الوجن ولا جاني بي شمالوا

    ما بخاف فارس الحديد الحمي

(العوق أب صفوف هم مجموعة من الفرسان يركبون الخيول دفعة واحدة ومضروب في الوجن تعني أنه مضروب من الأمام وليس من الخلف بمعنى أنه لم يهرب وإنما ثبت في العركة)، وتواصل الشاعرة النور بت بابكر مفرداتها الحماسية والقوية في مدحها للبخيت فتقول : 

ما حضروا معاك أخوانك الصلاط * وقمزوا الخط على خيلاً بجن غايـرات 

بدخل في بكانن حرابو متشابكات * وجي مرهون على جفونوا الدمى سايلات

ما حضروا معاك أخوانك الديدان * وقمزوا الخط على خيلاً بجن ريقــان

وكت الشوف بشوف صدرك يزم دلهان * سوالم جهاد همزه وعلي وعثمان  

ما بخاف فارس الحديد الحمي ..الخ 

إن منطقة أم مغد رائدة في مجال أغنيات الحماسة بوجود العديد من الشاعرات مثل الشاعرة النور بت بابكر ضحوي وابنة عمها (زينب بابكر عبد الله الشوبلي) والأخيرة ألفت قصيدة (البازل بابكر) في جدها الشيخ بابكر ضحوي المشهور في المنطقة بالكرم والشجاعة ومن مفردات تلك الأغنية المشهورة قول شاعرتها:

بجر القول والشكر لي البازل بابكــــر 

يا بنية جري الكلام لي الأسد الما بنضــام 

ضيفو ما نبشو قام أبوي قدحوا سبق الكلام 

يا بنية جري القدح للأسد المـــا انفضح 

ومما قام قرح بحر المالح طمــــــح 

ولا يستغرب الكرم والعطاء من البازل بابكر لأنه من منطقة أنجبت الشيخ مضوي ابن الفكي الإمام ود عبد الله من ذرية شيخ موسى أبوقرين والذي ولد بأم مغد ونشأ بين أبنائه من العلماء والصالحين في مسيد أجداده الذي كان عامراً بالذكر والخلاوى في طيبة (أم برام) على مقربة من أم مغد حيث أخذ الطريق القادري عن الشيخ عوض الجيد (توعفينة) وهو والشيخ (محمد ود بدر) وكانا أخوين في الطريق، وهو أول من نقل المسيد من طيبة أم برام إلى أم مغد وبنى مسيداً مكوناً من خلوة ومسجد ومضيفة وزاوية للأذكار، وقد توفي قبل الشيخ العبيد ود بدر بسنتين عن عمر ناهز المائة وعشر سنة ودفن بأم مغد، ومن أحفاده الشيخ محمد علي والذي ولد بأم مغد عام 1263هـ ودرس القرآن الكريم بسنار، وسلك الطريق القادري على يد الشيخ محمد ود بدر ثم تعلم من الشيخ إبراهيم بالنيل الأبيض، ومن ثم استلم إمامة الجامع مع شقيقه إبراهيم وقاما برعاية آثار أبيهما الفكي مضوي في التعليم والأمانة والإرشاد، وبعد مائة عام أي في حوالي 1946م توفي الشيخ محمد علي وخلفه ابنه موسى ثم توفي الشيخ إبراهيم في عام 1952م ولم ينضب ذلك المعين الطيب وكان الإلهام الأدبي حاضراً بالمنطقة والتي شهدت العديد من الأحداث بوجود شاعرات مخضرمات فما أن توفيت الشاعرة النور بت بابكر ضحوي حتى ظهرت  حفيدتها (النور بت عبد الرحمن ود موسى) والتي كانت شاعرة مجيدة عاشت في منتصف القرن الماضي، وتجلت وأبدعت في قصيدتها المشهورة التي ألفتها عندما تعرض أحد أبناء منطقة الجريف للغرق بأم مغد فأصابها الحزن عليه لا سيما وقد كان على وشك الزواج فحضر للمنطقة لتقديم الدعوة لأهله حيث أن أمه من منطقة أم مغد مما حدا بالشاعرة النور بت عبد الرحمن ود موسى أن تؤلف مناحة حزينة قالت فيها: 

الوليد الضيف غرقتنو كيــــف 

وجيبو لي هدومو الراقدة فوق القيف 

وآ سواد أمو الأهلو في الجــريف 

بنات عمو جن من كبار لي صغار 

وحزنانات عليه مليانات غبــار 

وشالن الليل بكى لا من جي النهار 

أغنية الوليد الضيف تغنى بها الفنان مصطفى مضوي في الثمانينات من القرن الماضي. 

لله در شاعرات بلادنا اللاتي ألهبن الحماس والشعور وحفظن القيم ومكارم الأخلاق في بلد ظل على الدوام يمثل القدوة الحسنة للشعوب والأمم الأخرى وإن جار عليه الزمان، ولكنه  سيكون خنجراً للأعداء والغاصبين كما عبر عنه شاعر الوطن هاشم صديق : 

       لما الليل الظالم طــــــول

قلنا نعيـــــد الماضي الأول

ماضي جدودنا الهزموا الباغي

وهدوا قلاع الظلم الطـــاغي

ومع بزوغ الفجر الجديد واستشراف المستقبل المتوقع نأمل ألا تدور فتنة في بلادنا تقعد عزائم وسواعد بنيه مثلما حدثت في عهود سابقة مما جعل خليفة الطريقة التجانية الراحل الشيخ (محمد ود دوليب) يؤلف منظومته في  عام 1113هـ ويشير فيها إلى تلك الفتنة التي كانت عصرئذٍ بقوله: 

فتن السودان سبع بلا مرا * فهذه منها وشرها يرى 

بالرمز (زمع ثم افتد)    * كان بها خراب يبتدى 

الأمل كبير أن تتوحد إرادة الوطن فيصبح ملكاً مشاعاً للجميع .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى