كلنا هذا الرجل ..!

الشيء الأصعب في تكوين الثورة هو الأمانة مع النفس، والرغبة في التحرر من متابعة القطيع” .. روبرت كيوساكي ..!

قبل نحو عشر سنوات  تسلَّمتُ – عبر بريدي الإلكتروني – رسالة من قارئ، أخبرني أنه طبيب سوداني مقيم في بريطانيا. كان قد زار مستشفى “أروما” بشرق السودان، وهاله ما رأى من تواضع الخدمات فضلاً عن انتشار حالات الإصابة بالسل وتردي الوضع الصحي العام لسكان المنطقة. وقد حدث أن قررت مستشفى “ساندرلاند” ببريطانيا الاستغناء عن بعض المعدات والأجهزة الطبية الفائضة عن حاجتها، والتي كانت بحالٍ جيدة. فقرر ذلك الطبيب أن يقوم بالتبرع بهذه الأجهزة والمعدات لمستشفى “أروما”. وعندما قام بمخاطبة الجهات المختصة في بلادنا تعثَّر بتعقيدات الجمارك وكلفتها الباهظة، فقرر أن يخاطب وزارة الصحة لتسهيل الإجراءات المكملة لهذا العمل الخيري العظيم . لكن وزارة الصحة لم تستجب لنداءات الطبيب، فقرر أن يراسلني لطرح المسألة ..!

حينها كانت الصحف والقنوات تضج بقضية رياضية “كروية”، ملأت الدنيا وشغلت الناس، فكتبت مقالاً – في هذه المساحة بصحيفة الرأي العام الغراء – بعنوان “قريباً من الناس بعيداً عن كرة القدم”، شرحت فيه أهمية الموضوع وطالبت – عبره – أهل الخير بالتبرع لسداد قيمة الجمارك الباهظة، حتى تصل تلك الأجهزة والمعدات لمستشفى “أروما”، وبالتالي تسهم في خدمة المرضى بالمنطقة ..!

فأعلنت إحدى شركات الاتصال عن استعدادها لسداد رسوم الجمارك، وخرج الخبر في “مانشيت” عريض بصدر أهم صفحات الجريدة، واستبشرنا بذلك خيراً. لكن الشركة لم تفعل ما أعلنت عن عزمها على القيام به، وضاعت الحكاية بين مكاتب المسئولين. وتسببت في رد مفحم من قبلي وتعقيب متوتر من قبل الشركة، ثم قطيعة طويلة المدى. لكن المهم في كل ما حدث أن ذلك الطبيب قد تكفل بسداد قيمة تلك الرسوم من جيبه الخاص، وفاء بوعدٍ كان قد قطعه على نفسه بأن لا يئد مشروعاً خيرياً كان قد شرع فيه ..!

وقد تصادف أيضاً أن تزامنت تلك الواقعة مع عودة ذلك الطبيب – الاستشاري بالمخ والأعصاب إلى السودان – وافتتاحه لعيادة بأكبر مستشفيات الخرطوم. وأذكر أنني زرت عيادته مع شقيقي الأكبر – وهو أيضاً طبيب – بسبب نوبات صداع نصفي مزمنة كادت أن تفسد علىَّ حياتي، لأنها لم تكن تستجيب للأقراص، وكنت أحتاج في كل نوبة إلى حقنة مسكن قوي المفعول. وبعد تناول وصفته الناجعة تخلصت من ذلك الصداع نهائياً، وودعت الحقن، وصرت مثل معظم الناس أكتفي بتناول أي قرص مسكن إذا أصابني بعض الصداع. وأذكر أنني حينها كتبت عن تجربتي مع ذلك العلاج الناجع مقالاً بعنوان “الزائر الغليظ”، ختمته بدعاء صادق لذلك الطبيب، الماهر. ولعل في عدم تكرار الزيارة، وبالتالي انقطاع أخبار ذلك الطبيب عني دلالة ظاهرة على استفادتي الكاملة من العلاج ..!

يوم أمس استمعت إلى مقطع صوتي لذلك الطبيب – كان منتشراً بين مجموعات الصحفيين في تطبيق “الواتس آب” –  يقدم فيه مناصحةً ثمينة للسيد رئيس الوزراء “عبد الله حمدوك”. تحدث فيه عن إقالة المهندس “أحمد الشايقي” من شركة “زادنا” ودعا إلى تقدير جهوده التي جعلت منها مزاراً يطلب الرئيس الأريتري “آسياس أفورقي” زيارته. وتحفظ خلاله على تعيين بعض الوزراء، ودعا إلى نبذ الاختيار على أساس الانتماء السياسي والمحاصصات، على حساب معيار الكفاءة. ودعا في مجمل حديثه “حكومة حمدوك” إلى عدم التطرف والتشفي في إعادة الهيكلة، وعدم نسيان الفضل بينها والأخيار من المهنيين في العهد السابق، مع التأكيد على وجوب إدانة ومعاقبة الفاسد ..!

الطبيب موضوع الحكاية أعلاه وصاحب المقطع الصوتي هو البروفيسور “أوشيك أبو عائشة سيدي”،  أستاذ المخ والأعصاب بكلية الطب في جامعة الخرطوم، وحديثه يمثل في تقديري رأي الأغلبية في قطاع الأكفاء مهنياً، اللا منتمين سياسياً، في هذا السودان. وهؤلاء –  في تقديري – هم صوت العقل الوطني والاتزان السياسي الذي تحتاجه – بشدَّة – هذه الحكومة التي تشق – اليوم – طريقها، من “ميادين” الثورة إلى “تقاطعات” الوطن الكبير ..!  

منى أبوزيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى