بورتسودان: حين تتعرّى الدولة على سواحلها

بورتسودان: حين تتعرّى الدولة على سواحلها

د. الوليد آدم مادبو

في اللحظة التي سقطت فيها القذائف على بورتسودان، لم يكن الصوت صوتَ انفجارٍ عسكري فحسب، بل صوتُ انهيارٍ أخلاقي وسياسي مدوٍّ. المدينة التي ظنها كثيرون آخر ملاذٍ آمن في وطنٍ منهك، كُشف غطاؤها فجأة.

الضربة لم تكن مجرد قذائف سقطت على منشآت، بل صفعة موجعة على وجه خطاب السلطة في بورتسودان. المدينة التي قُدّمت للعالم باعتبارها «العاصمة البديلة»، ها هي تسقط من وهم الحصانة، وتكشف للذين احتموا بها أنهم لم يقرأوا المشهد جيدًا ولم يدركوا أن ما انهار في الخرطوم لا يمكن ترقيعه في الشرق، وأن الدولة إذا انهارت في قلبها، لا تنجو أطرافها مهما تزيّنت.

لكن ما حدث ليس حدثًا معزولًا، بل حلقة في سلسلة انحدار طويل بدأت منذ أن اختطف الإخوان المسلمون (الكيزان) السودان، وأحالوه إلى بؤرة مزمنة للإرهاب. منذ عقود، اختطف هؤلاء الدولة وأفرغوها من معناها، حوّلوها إلى غلاف أيديولوجي فارغ يختبئ فيه الفساد والاستبداد والتكفير، حتى بات السودان عبئًا على نفسه ومصدر قلق دائم لجيرانه والعالم.

وفي عالمٍ تحكمه موازنات إقليمية ودولية دقيقة، لا يُمكن ترك السودان رهينةً لمجموعةٍ متطرفة تسيء استخدام موقعه الجيوسياسي الحساس على البحر الأحمر وفي قلب إفريقيا. لهذا، لن يجلس العالم متفرجًا طويلاً. وإن بدأا المشهد وكأن الجميع صامت، فإن لحظة الاجتثاث قادمة، لا لأنها مؤامرة خارجية، بل لأن السودان لم يعد يُحتمل من الداخل، ولا يمكن السكوت عليه من الخارج.

لست معنيًا هنا بتفاصيل الهجوم، ولا بخطوط الإمداد، ولا بلغة البيانات العسكرية. ما يعنيني هو الإنسان السوداني الذي تلقى الصفعة، مرة أخرى، بلا درع، بلا دولة، بلا أمل. يعنيني من فقد ثقته الأخيرة في أن بورتسودان ستكون بداية جديدة، فإذا بها امتدادًا لنهاية مفتوحة على الكارثة.

ليس من المبالغة القول إن قصف بورتسودان ضرب ما تبقى من وهم «السودان الرسمي». فما الذي تبقى إذًا؟ لا دولة، لا جيش، لا أمن، لا مشروع سياسي، لا مبادرة، لا معنى حتى لفكرة «الانتقال» أو «الحل». ما تبقى فقط هو الشعب، بحزنه وخوفه وإصراره الغامض على النجاة، ولو من بين الركام.

ولا خلاص لهذا الشعب إلا بوعيٍ قاسٍ، شجاع، يخرج من الغيبوبة، ويتحرر من وهم المؤامرات الخارجية، ويواجه ذاته، ويصرخ في وجه خرافات الكيزان وخطابهم المدمِّر: كفى. آن لهذا الشعب أن يطالب بحقه في دولة حديثة، في نظام مدني يحترم القانون، في الانتماء إلى منظومة دولية لم يعد التمرد عليها بطولة، بل انتحار.

ختاماً، إن بورتسودان لم تُقصف فقط من الجو، بل قُصفت من الداخل، حين استُخدمت كمخدع سياسي أخير، حين فُرض عليها أن تكون واجهةً لحكمٍ يتهالك. واليوم، تنكسر تلك الواجهة، ويخرج من خلفها السؤال الأكبر: كيف نُعيد بناء وطنٍ بلا خداع، بلا أقنعة، بلا كذبة العاصمة؟

الوقت ليس للترف الفكري، ولا للخطابات المجوّفة، بل للاستعداد العملي والوجداني لتلك اللحظة القادمة التي ستنهار فيها الدولة كما نعرفها. فإما أن نكون أهلًا لوطن جديد يُولد من ركام دولة مخطوفة، أو نغيب مرة أخرى عن مشهد التأسيس ونكتفي بالندب واللائمة. هذه فرصة لا يمنحها التاريخ مرتين، ومن لم يتهيأ لها اليوم، سيُقصى عن الغد، ويُطوى اسمه في هوامش الحكاية، لا في متنها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى