منى أبو زيد تكتب: لعنةٌ محليّةٌ..!

هناك فرق

منى أبو زيد

لعنةٌ محليّةٌ..!

“هذه مبادئي، إذا لم تعجبك فعندي غيرها”.. غروشو ماركس..!

أولى خطوات الطبيب السوداني من جيل “الدكاترة الكبار” على طريق المهنة بدأت غالباً منذ الصِّغر بتشجيع من أساتذته في المدرسة ووالديه وبعض المُتفائلين والمُجاملين من أفراد العائلة والجيران. فما أن تبدو على الطفل أمارات الذكاء حتى يسارعون إلى التنبؤ بأنه سوف يصبح في المستقبل “دكتوراً كبيراً”. وما أن يُلقي أي ضيف عابر بذلك السؤال التقليدي عن ما يود الطفل – الذي يتنطط حوله – أن يكونه في المستقبل حتى تخرج الإجابة النموذجيَّة من بين الأسنان اللَّبنية نصف المُهشّمة “دكتور”..!

بعدها يختار طفل الأمس الذي أصبح مُراهقاً اليوم، كلية الطب فيهرع معظم أفراد عائلته إلى مناداته بيا دكتور ويطلبون منه بفرح طفولي أن يقيس لهم الضغط وهو لا يزال طالباً مفعوصاً، ثُمّ تمضي السنوات ويتخرّج الطالب فيفرحون فرحاً عظيماً مبالغاً فيه..!

طائعاً أو مرغماً يقوم ذلك الطبيب اليافع بتخزين ذلك التهليل والتكبير في خلايا مخه الرمادية، ويجد نفسه يقوم باستحضاره دونما وعي منه وهو يسير مزهواً بمعطفه الأبيض في أروقة المُستشفيات، تتبعه لحاظ الحسان الحالمات بزوج يكون من فئة “بالعصر مروره”..!

بعد أن ينهي الطبيب الشاب رحلة التخصُّص قد يقضي سنوات طويلة من حياته خارج البلاد “أوروبا .. أمريكا .. كندا …إلخ ..” قبل أن يعود بعدها ليجلس على ذلك الكرسي الأنيق في إحدى العيادات الأنيقة ذات التذاكر العلاجية فادحة الأثمان..!
هنا فقط تظهر بعض الحقائق الموجعة التي تقول بأن بعض هؤلاء الأطباء الذين يمشون على الصراط المستقيم أينما كانوا في الخارج ما أن تطأ أقدامهم أرض الوطن حتى يطوحون بالدقة والنظام – والتمسُّك الصارم بالواجبات المهنية ومراعاة حقوق المريض القانونية والأخلاقية – إلى أقرب “سَهَلَة”، وقد تصدر عن بعضهم ممارسات عشوائيّة إلى حدّ الاستهتار..!
وبينما يُدلِّل الكثير من هؤلاء الأطباء الكبار مرضاهم في الخارج ويُراعون بدقة مُتناهية أبسط حقوقهم – خوفاً من المُساءلة الأخلاقية ومن قوانين المسؤولية التقصيرية وقضايا التعويضات الفادحة – ينقسم المرضى المحليون بحسب رؤية بعض هؤلاء الأطباء فيما يختص بكيفية المُعاملة إلى فئات ثلاث..!
الأولى “مرضى جهلة وأميون وناس الله ساكت، وهؤلاء لا يَستحقون عناء الشرح والإيضاح لانعدام النديَّة الفكرية والاجتماعية”.
والثانية أنصاف متعلمون يكثرون من الاستماع إلى برامج التلفزيون ويتبادلون الوصفات الطبية على تطبيق الواتس آب، وهؤلاء يجب قمعهم بتوجيه الكلام بصيغة الأمر، والمقاطعة الصارمة لشكواهم المطولة وتفعيل آلية الردود “المقتضبة” على تساؤلاتهم “المملة”..!
أما الثالثة، فهي فئة التعليم العالي “جامعي فما فوق” وهؤلاء بدورهم ينقسمون إلى “أ” و”ب”. الفئة “أ” هم أولئك المرضى من أصحاب المهن والتخصُّصات الأخرى – عدا مهنة الطب – وهؤلاء يتظارفون كثيراً ويرفعون الكلفة لشعورهم بالنديَّة الأكاديمية والفكرية ويستخدمون كلمات بالإنجليزية على غرار “بيشنت” و”كوبيشنت” و”أنتي بايوتيك” و”أنتي هيستامين” و”أنتي أسيد” …إلخ .. وهؤلاء يجب إيقاف تبسطهم وانشراحهم بالنظرات الباردة والجُمل الحاسمة القاطعة، حتى لا تُسوِّل لهم أنفسهم السؤال عن أيِّ تفاصيل عدا “روشتة” الدواء..!
أما الفئة “ب”، فهم زملاء المهنة وما أدراك، وهؤلاء يجب التعامل معهم بقدر معقول من الود المتعالي “مزيج من إظهار الترحيب وإظهار بعض الأنفة المهنية التي تلعب نفس الدور الذي يُمكن أن تؤديه جملة “أنت هنا مريض مثل غيرك”..!
خلاصة القول، إن بعض “الأطباء الكبار” لا تصيبهم لعنة العشوائية إلا داخل الحدود الإقليمية. والجودة النوعية التي نُطالب بها هي السلوك المهني النموذجي، هي واجب الطبيب وحق المريض عليه..!

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى