بطل سياسي..!

الشجاعة التي نُريدها ونكافئ عليها ليست شجاعة الموت بطريقةٍ مُشرفةٍ، بل شجاعة الحياة برجولة”.. توماس كارليل..!

لم يُولد المهاتما “غاندي” في يومٍ “خاصٍ”، ولم يشهد العالم مُتغيِّرات ظاهرة أو حتى طفيفة في حالة الطقس يوم ولادته، بل أتى في هُدُوءٍ وعاديَّة أنيقةٍ كمئات العُظماء الذين يأتون بلا ضجيجٍ ويرحلون في صمتٍ، تاركين إرثاً جليلاً يحكي الكثير عنهم دونما كلامٍ.. كان يَفزع من الأشباح والهوام، وقد ظلَّت زوجته تُعاني من إشعال الإضاءة في غُرفة نومهما – كل ليلة – حتى الصباح لأنّه كان يخاف الظلام..!

لم يكن “غاندي” جاموس خلاء بأيّة حال، بل كان نُموذجاً مُناسباً ومُمَنْطِقَاً لشخصية البطل المُترعة بمثالب “الأنتي هيرو” التي أحيتها واقعية الفن الحديث.. ولأنّ عاديته تلك لم تكن أمراً مَفروضاً بل خياراً آمن به وسعى إليه، فقد حَقّقَ من خلالها مَشروعه السَّلمي العظيم “الساتيا غراها” الذي باركته الإنسانية الحَقَّة كون آلياته تتلخّص في اللجوء إلى المُقاومة السّلبية أو اللا عنفية كوسيلةٍ لتحقيق الإصلاح الاجتماعي والسياسي..!

“تغيير المواقف ليس من شأنه أن يُقوِّض مفهوم البطولة، كما أنّ تغيير الرأي في – مطلق الأحوال – لأجل الأهداف القومية ليس رجوعاً عن الصواب بل هو رجوعٌ – عمليٌّ – إليه”.. مُتكئاً على هذه الفلسفة حَقّقَ غاندي كل إنجازاته الإصلاحية بفضل تراجُعه الشجاع عن بعض آرائه التي أثبتت الأيّام عدم جدواها، فوضع بذلك حجر الزاوية لديمقراطيةٍ قويةٍ شهد العالم ولا يزال رسوخها.. بينما ظَلّت الديمقراطية في بنغلاديش وباكستان التي كان الانفصال خيارها – في وقته – تتَملْمَل حتى الساعة..!

في أثناء إقامته بجنوب أفريقيا كوّن غاندي فرقة إسعاف هندية بهدف مُساعدة الجرحى البريطانيين في حرب البوير، وقد ظلَّت فرقته تُقَدِّم الخدمات الطوعية للبريطانيين حتى في حروبهم مع “الزولو”.. ظلَّ يفعل هذا على الرغم من تعاطُفه العميق مع شعب “الزولو” باعتبارهم أسياد أرض وأصحاب حق.. فهل كان غاندي ميكافيلياً؟!.. الإجابة على هذا السؤال بالنفي أمرٌ تَكَفّلَت به قوة الهند السياسية والاقتصادية المُتعاظمة، كما تَكَفّلَت به أضابير التاريخ التي لا تغفل شيئاً..!

ولأنّ البطولات السِّياسيَّة ليست مَواقف جَذّابة أو حتى داوية بل نتائج مَحسوبة ومُرضية للشعوب ولتاريخها في النهاية، كان الرجل يرى أنّ بريطانيا – المُستعمِرة – هي المعبر الوحيد لتطوير الهند، وأنّ الانتعاش الاقتصادي لن يكون إلا بالحفاظ على الصَّداقة مَعَهَا.. كل هذا في ظل الثّبات على مَبدأ أنّ الهند لا يجب أن يحكمها سوى الهنود.. وقد كان له ما أَرَاد..!

واقعنا السِّياسي في السُّودان يشهد مفهوماً مُشَوّشاً لفكرة البطولة والإنجاز السِّياسي، وثقافتنا – التي تتكئ في خُصُوصيتها على مَوروثاتنا العرب إفريقية – كانت ولا تزال تُضَيِّقُ الخِنَاق على أيِّ معنى جديد لفكرة البطولة السِّياسيَّة خارج مصطلح “جاموس الخلاء” الذي لا يزال يسعى ويرمِل بين قراراتٍ عاطفيةٍ تشوبها الحَمَاسة، وتهور سلوكي يُكَلِّله إقدام ساحات الوغى، وغضبات “مضر – زنجية” لا تأبه لمُقتضيات الأحوال الراهنة، ولا تكترث لاعتبارات القوة السياسية الناعمة..!

“لا تدرك الحقيقة الكاملة إلا عين تنظر من ربوة الأبدية على الزمن كله”، وعين التاريخ تُومِئ دوماً نحو المنجزات السياسية، الوفاقية، الإصلاحية.. وما عدا ذلك يذهب جُفاءً.. فهل يا تُرى من مُذَّكر..؟!

منى أبوزيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى