قمصان يوسف..!

“الشعوب التي تفشل في تشخيص أمراضها بشجاعة تموت نتيجة تناول الدواء الخطأ” .. الصادق النيهوم

(1)

المواقف الإنسانية المحتشدة التي لعب فيها قميص سيدنا ﻳﻮﺳﻒ أدواراً مختلفة ــ وأحياناً متناقضة ــ من دليل على كذب الإخوان، إلى دليل على براءة صاحبه، إلى دليل على بقائه على قيد الحياة – وبالتالي كونه سبباً لرد بصر والده الضرير – كل هذه المعاني المحتشدة تؤكد أن ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻭﺍﻟﺸﺮ ليس ﻓﻲ طبيعة ﺍﻷﺷﻴﺎﺀ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺍﺳﺘﺨﺪﺍﻣﻨﺎ ﻟﻬﺎ. وكذلك فإن الخير والشر ليس في تقاطع العلاقات وإنما في موقف الأطراف منها. وبهذا المفهوم لا ينكر عاقل رغبة المتفاوضين في تحقيق استقرار سياسي ما، بافتراض أن المفاوضات بشأن الحكومة الانتقالية هي “قميص يوسف”، فأي قميص من قمصان يوسف ترتديه تصريحات بعض السادة المسئولين بشأنها؟!. قميص الكذب، أم قميص البراءة، أم قميص الشفاء بعد طول مرض؟!. ثم من هي زليخة – يا ترى – ومن هم إخوان يوسف..؟!

(2)

الإرث الشفاهي للعلاقات الإنسانية في السودان يحمل مقداراً هائلاً من مفردات الاستبداد، والاستعلاء، والوصائية، والمبالغة في نقد الآخر، لا لشيء إلا لأنه مختلف وعلى نقيض. فلا ضير إذاً من التشكيك في قواه العقلية إذا لزم الأمر. ومع كل ذلك تبرز مفارقة اجتماعية مفادها أننا شعب يحذو سواده الأعظم حذو الآخر، لذلك يبقى التقليد هو سيد السلوكيات الاجتماعية في السودان، والبطل الشعبي الوحيد الذي لم يذق طعم الهزيمة حتى الآن ..!

(3)

في كل معارك الدنيا وصراعات البشر – باختلاف ألوانهم ومشاربهم وعلى مر العصور – هنالك دوماً مساحة رمادية ضاجة بالتعقيدات وحافلة بالتناقض، لكنها أيضاً غنية بأوجه الشبه الإنساني وموجبات الالتقاء مع بعضنا كأُناس، والانتماء إلى بعضنا كبشر، لا يمكن للإنسانية أبداً أن تختزل نفسها في خير صرف أو شر محض، وفقاً لما يكتب في “خانة” الانتماء السياسي!. إن تنقية حقيقة الإنسان ــ المعقدة في جمالها والجميلة في تعقيدها ــ تبسيط مُخِل بعمقها وثرائها الذي يلتف حوله البشر بحياد يؤنسن أفعالهم ويرتقي بانتماءاتهم. قد يؤدي بنا التعقل إلى نار الظلم أو جنة العدل، لكنه حتماً سيوصلنا إلى مكان ما، وهو حتماً مكان أفضل مما يدعونا البعض إليه من متاهات ومجاهل. ليتنا نتذكَّر أننا عندما نكظم غيظنا – ونسعى إلى التغيير الإيجابي بأرقى الوسائل – لا نغيِّر الماضي بل نغير المستقبل ..!

(4)

أسلوب التربية في مجتمعاتنا لا يشجع فكرة الاعتذار، إلى حد الاعتقاد بأن كلمة آسف تناقض ما تتطلبه الرجولة من رباطة جأش وقوة شكيمة، لذلك تهرع الشخصيات الاعتبارية ـ في مجتمعنا ـ قبل الفردية، إلى الاستماتة في تبرير الخطأ عوضاً عن الاعتراف بوقوعه. نحن بلد مكابرحكاماً ومحكومين. شعب يتعامل مع أخطائه الناتجة عن عشوائية أو سوء تقدير بمنطق مُكابر على صعيد الخاص والعام، وحكومات متعاقبة تفلسف أخطاءها السياسية على طريقة “الخطأ في إدارة الخطأ”!. لذلك تجد أن الثقافة السائدة ــ عندنا – هي اللف والدوران حول المشكلة عوضاً عن الاعتراف بوقوعها. فكلمة “آسف” – عند معظمنا – ثقيلة، عصيَّة على الفؤاد قبل اللسان!. بعد تفكير عميق في معضلة المكابرة القومية هذه، أقترح ــ وبمنتهى الجدية ــ تضمين منهج عن “فنون إدارة الخطأ” في المناهج الدراسية للمرحلة الابتدائية، باعتبار أن زراعة السلوك القومي الناجح تبدأ منذ تلك المرحلة!. “آسف” كلمة لها وزنها وقيمتها الرسمية والشعبية، ومفعولها الساحر الذي يغسل الغضب ويلين أشد المواقف صلابة محلية كانت أم دولية. والوجه الآخر للمبادرة بالاعتذار هو الصفح الجميل، وكلاهما لا يباع في محلات السوبر ماركت، ولا يشترى من الصيدليات، بل ينقش في حجر السلوك القومي منذ الصغر. فهل – يا تُرى – من مُذَّكٍر ..؟!

منى أبوزيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى