د.عثمان البدرى يكتب: السودان للسودانيين  أين هو بعد سبعة وستين عاما؟

بمناسبة الذكرى السابعة والستين لإعلان الاستقلال من داخل البرلمان.اذ تم فى ذلك اليوم

قبل سبعة و ستين عاما و في اليوم التاسع عشر من شهر ديسمبر «1955م» ميلادية تقدم العضو عبد الرحمن دبكة عن دائرة نيالا من حزب الأمة باقتراح بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان وأن يكون يوم «1/1/1956م» هو اليوم الذي يصبح فيه السودان جمهورية مستقلة ويطلب البرلمان من الحاكم العام الطلب إلى دولتي الحكم الثنائي «بريطانيا» ومصر الاعتراف بهذا الاستقلال. وثنّى الاقتراح النائب مشاور جمعة سهل  نائب دائرة دار  حامد من الحزب الوطني الاتحادي وقد تحدث السيد محمد أحمد محجوب زعيم المعارضة مؤيدًا وأطنب في هذا وأن هذه كانت أشواق السودانيين منذ أن فقدوا استقلالهم في ضحوة ذلك اليوم في عام «1898م» وبعد معركة أم دبيكرات وفي عام «1916م» بعد مقتل السلطان علي دينار، وقد حدد البرلمان في قراره الذي تمت  اجازته بالاجماع ان يكون اليوم الاول من شهر يناير 1956 هو اليوم الذى يصح فيه السودان دولة مستقلة ذات سيادة و ان يطلب من دولتى الحكم الثنائى الاعتراف بذلك و قد وافقت دولتى  الحكم الثنائي على طلب البرلمان فى الخطابات المتبادلة بذلك الخصوص و التى  نورد نصها فى هذا المقال لاحقا..

وفي صبيحة اليوم المحدد تم الاحتشاد والاحتفال في ساحة القصر الجمهوري «قصر الحاكم العام سابقاً» بإنزال علم بريطانيا وطيه وتسليمه لمندوبها وإنزال وطي علم جمهورية مصر و تم عزف السلام علم جمهورية مصر وتسليمه لمندوبها في احتفال عظيم تم فيه رفع العلم السوداني بألوانه الثلاثة الأزرق والأخضر والأصفر على السارية بواسطة رئيس الوزراء المرحوم إسماعيل الازهرى  و السيد محمد احمد محجوب زعيم المعارضة  و تم لاول مرة عزف السلام الجمهورى السودانى.

وكان البكباش زكريا محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة المصري قد عبَّر عن سروره ورغبة الحكومة المصرية في استجابتها لرغبة البرلمان السوداني وتم عقد اجتماع في القاهرة بين الحكومة المصرية والسفير البريطاني لبحث هذا الأمر وفي لندن التقى السيد هارولد ماكميلان رئيس الوزراء مع السيد نوكس هولم آخر حاكم عام بريطاني للسودان وأعلنت الحكومة البريطانية بأنها ستنظر بعين الاعتبار لقرار البرلمان السوداني وستتباحث مع الحكومة المصرية حول هذا الأمر.

وكان الصاغ صلاح سالم الذي كان له دور كبير في التبشير بالدعاية المصرية للاتحاد مع مصر وإنفاق الأموال المصرية والدعاية الكثيفة لمرشحي الحزب الوطني الاتحادي والتي وصلت إلى حدود الرقص بزي غير محتشم وقد وصل الخرطوم صبيحة يوم العشرين من ديسمبر «1955م» في زيارة وُصفت بأنها شخصية والتقى السيدين الإمام عبد الرحمن المهدي راعي الحركة الاستقلالية والسيد علي الميرغني مرشد الختمية وزار أيضًا السيد إسماعيل الأزهري ولم تورد لنا المصادر انه زار السيد محمد أحمد محجوب زعيم المعارضة كما تقتضي الأعراف. وقد أصدرت الحكومة المصرية بيانًا بالاعتراف وأرسل جمال عبد الناصر رئيس حكومة جمهورية مصر في الأول من يناير 1956م رسالة موجهة لرئيس مجلس وزراء حكومة جمهورية السودان حمل الاعتراف الصريح والرغبة في التعاون وحسن الجوار كما أرسل السيد سلوين لويد وزير الخارجية البريطاني رسالة للسيد إسماعيل الأزهري رئيس وزراء السودان أعرب فيها عن تأييده لقرار البرلمان السوداني وطلب التعاون مع حكومة السودان للتعاون على اتخاذ جميع الخطوات التي تؤدي إلى تصفية الحكم الثنائي وقال إن الحكومة تثق بأن حكومة السودان ستلتزم بجميع المعاهدات والاتفاقيات الموقعة ورد الأزهري بأن طلب من حكومتي الحكم الثنائي تجديد الاتفاقيات وان حكومة السودان الجديدة ستنظر فيها جميعًا. ومعلوم أن الاستقلال لكل الدول لا يأتي إلا بعد جهد وجهاد طويل وقد بدأ العمل على استعادة استقلال البلاد من المستعمِر حتى قبل أن تنتهي المعركة في كرري وحتى قبل أن تبدأ إذ اتضح لقيادة الدولة المهدية من المعلومات الاستخباراتية التي تم الحصول عليها من المعارك التي سبقت المعركة الفاصلة الكبرى في كرري وأبو طليح وكربكان وغيرها أن القوة غير متكافئة وأن البلاد مخترَقة من أقصاها إلى أقصاها بواسطة مخابرات ونجت والمصريين وغيرهم وأن كثيرًا من المجموعات والأفراد والقبائل يتعاونون مع المستعمِر والغازي الجديد القديم لأسباب مختلفة بعضها عقدي وقبلي ونفعي وشخصي ومنافع وُعدوا بها أو ملك استلبوه أو تجاوزات ارتُكبت في حقهم وجعلتهم يعبرون الحاجز الكثيف للتآمر ولم تكن هذه المرة الأولى ولا الأخيرة في تاريخ السودان ولا غيره من الشعوب وحتى في الثورة الأمريكية للاستقلال فقد كان هنالك تفاون كبير من عدد من الأمريكيين مع البريطانيين والفرنسيين لمعاونة البريطانيين ضد الجيش القاري الأمريكي بقيادة جورج واشنطن وفي السودان فمن الثابت أن هنالك مراسلات ورسلاً جرت بين الحاج محمد علي باشا في مصر والحجاز تحرضه على غزو السودان وفتحه وتخليصه من الهمج وبعض الزعماء ذهبوا له شخصيًا في الحجاز ومصر وأغروه وزينوا له وفي عهد المهدية لم يكن هذا بدعًا فقد استمر البعض على توادهم وتراحمهم وتراسلهم مع المستعمر ولم تنقطع صلاتهم قط وازداد كيدهم عند ظهور المشكلات والصعوبات التي واجهت الدولة المهدية المحاصرة من الأعداء من كل جانب كل يحمل إحنًا وضغائن ومطامع.و قد اور ابرهيم فوزي باشا فى كتابه “السودان بين يدى غردون و كتشنر ” خاصة الجزء الثاالث منه كثيرا من وثائق المراسلات التى تمت بين كثير من الزعماء و ونجت باشا مدير استخبارات الجيش الاستعمارى الغازى و قد تم اجتهاد كبير لاخفاء هذا الجزء من الكتاب.

وفي كرري كانت الموقعة الحاسمة وكان الذين سقطوا شهداء يدافعون عن استقلال الجميع وكرامتهم وقد استبسلوا وهم يعلمون الفرق الشاسع في العدة والعتاد وقد تم تخليد ذلك في أدب وقصائد من عديدين ومن هؤلاء الجد للأم البدري بن الشهيد الأمين ود البدري وكان والده قد استشهد في أول دفرة للخيل بقيادة الأمير إبراهيم الخليل حيث عدَّد الشهداء من المحيريبا من مختلف القبائل من المسلمية والجموعية والكواهلة بلا انتقاص لمن لا يعرف حيث قال في ملحمة طويلة:

وأذكر للأبي أب فضلا مــو غبي ** من هو صبي صائم تائب

حين وقع مضروب ثابتا مو مرعوب ** قال هذا وهذا المطلـوب

يوم الجمعة الضهر زغردن الحــــــــــور ** شايلات بخور عنبر وكافور

وملكًا لن يـــــــزول

وأذكر ناس ود البدري ** الفــازو من بـــدري

وفي الجنة ام قــدر ** لقـــوا ليلة القــــــــدر

 

قلنا إن الجد الأكبر كان شاعراً راوياً عالماً، وكان أخوه الأصغر الحاج عبد الله الأمين البدري اقتصادياً متدبراً، كان يمد أهله في الهجرة بأم درمان بالميرة ولما بعد واقعة كرري، وهما من أحفاد الشيخ جاد الله أبو شرا بالكلاكلة القبة، وكان عمهما الشيخ النذير خالد قاضياً في المهدية ومن بعد شيخاً للعلماء بالمعهد العلمي، وتزوج حبوبتنا حليمة السعدية شقيقة الأمير إبراهيم الخليل من اقرباء خليفة المهدى خليفة المهديو قد ذكر لى احد احفاده و هو مهندس الاتصالات ابرهيم عيسى محمدين البيقاوى ان الامير ابراهيم الخليل هو من قبيلة البيقو بجنوب و شرق دارفور و هى من القبائل التى ثبتت مع خليفة المهدى باالاضافة الى قبائل البقارة و الكواهلة و الحساتية و الحسنات و دغيم و كنانة و الهدندوة و الحلاوين و الجوامعة و حمر و دار حامد و قبائل من النوبة و اخرين كثر اظهروا ايمانهم او كتموه و قبائل مجموعات من قبائل وقفت مظاهرة للغزوو هذا كثير فى التاريخ الغابر و المعاصر اما للتنافس على الزعامة او بكاء على ملك ضاع يلتمسونه عند قيصر كما فعل امرؤ القيس او مطامع يرجونها او بعض مظالم وقعت على بعضهم و كل ذلك ليقضى الله امرا كان مفعولا.

ولقد بدأ الإعداد لمقاومة الاستعمار الثنائي منذ أن بدأ دخوله الأراضي السودانية في 1895  في كل مراحل تقدمه جنوباً وحتى قبل المعركة الفاصلة في كرري اتخذ الأمير يعقوب تدابير للتحرف للقتال والتحيز لما بعد المعركة. وكان الأمير يعقوب شخصية قيادية إستراتيجية من طراز فريد تهزأ بكثير ممن يطلق عليهم اليوم «الخبير الإستراتيجي» – إذ قام بوضع احتمال للهزيمة المباشرة في كرري وتحوطات للتحرف والتحيز لما بعد كرري قام بتجهيز تعينات من الرواحل والزاد في منطقة على مسيرة ثلاثة أيام بعيداً عن النيل إلى الجنوب والغرب من أم درمان، وكانت هذه هي المنطقة التي ارتحل إليها الخليفة ومن معه بعد ظهر يوم كرري، وهي أرض بعيدة من مرمى نيران العدو من البوارج النيلية، وقد رجع  عنه مطاردوه بعد أن أنهكهم السير من أرض لا يعرفونها ولا يعرفون ما وراءها.  وبعد وصوله إلى  أبو ركبة و نواحيها أرسل إلى الأميرين الشهيدين الأمير أحمد فضيل –  وإلى الأمير الختيم موسى وكانوا بالشرق ليعبروا  إليه، وقد عبروا بعد تضحيات ومعارك وشهداء وكتب إليهم رسائل أنه ذاهب غرباً متحيزاً إلى فئة ومتحرفاً لقتال كما نصت الآية الكريمة وليس متولياً يوم الزحف،و لا يكتب مثل ذلك الخطاب بمعانيه السامية الا من تمكن الايمان قلبه و رقى الى قريب من درجات الصديقية. وخطابه هذا لهم يحمل المضامين الإيمانية العميقة التي يهتدي بها الرجل وأعوانه ومن شاء رجع إلى ذلك يجده في الثبت القيم لمؤلفه:عصمت حسن زلفو «كرري» وانسحب الأمير على دينار غرباً بمن معه إلى دارفور وظل ممسكاً بزمام الأمر حتى استشهاده في معركة منواشي عام 1916 بقيادة هدلستون باشا وحوله الكثير الذي يمكن أن يقال ويكتب.  وذهب الخليفة إلى جبال النوبة جنوباً وغرضه الاستعداد والكرة مرة إلى أم درمان ولكن قضى الله أمراً كان مفعولاً في أم دبيكرات، حيث استشهد جالساً على فروته وفي حجره الشهيد أبو جكة وحوله الخلفاء على ود حلو والخليفة شريف والصديق بن المهدي والأمير أحمد فضيل والأمير عجب الفيا وغيرهم من الأكارم وأسر عدد كبير أخذوا إلى رشيد بمصر، وأفلت الأمير عثمان دقنة إذ استطاع عبور الأنهار والفيافي إلى الشرق حتى قبض عليه بواسطة عيون الخيانة التي لم تنم أبداً عن السودان.

ولم تتوقف حركات الجهاد من أجل الاستقلال في كل نواحي السودان خاصة في الوسط والغرب والجنوب بالرغم من البطش الغاشم للاستعمار وأعوانه، ومع كل  حركة جهادية استمرت الخيانات والتآمر من أقرب الأقربين وليس في ذلك بدعة بدءًًا من تاريخ الرسل وحتى يوم الناس هذا بدءًا من ثورة ود حبوبة الثلاثية الأضلاع ومعه الفكي الطريفي حسن والفكي عبد الماجد وحركة الفكي السحيني  والمقاومة في جبال النوبة وثورة النوير وغيرها.  ومع استقرار الحياة نوعاً ما بعد عشرينات القرن العشرين بدأت الحركات الحديثة المنادية للاستقلال في الجمعيات الوطنية والتجمعات الثقافية – حركة اللواء الأبيض والتي انتهت في العام 1924م بالثورة المسلحة وملحمة مستشفى النهر وشهداؤها التي تم على  إثرها إجلاء الجيش المصري من السودان، و قد تم اخراج بعض السودانيين من منازلهم فى قلب الخرطوم حين اوى اليها بعض الثوار.و منهم بعض منازل ال الناظر شكرالله و غيرهموكان من أبطال تلك الملاحم على عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ وعبيد حاج الأمين وثابت عبد الرحيم والأمير الاي عبد الله بيك خليل الذي كان له دور بارز فيها، وفيما بعد في جهود الاستقلال حتى صار رئيساً للوزراء  في عام 1956 وغيرهم من المشاركين. وبدأت الحركة الثقافية تبشر بالمفاهيم الجديدة في الحرية والانعتاق والتطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وبدأت حركات النشر والثقافة  في أندية الخريجين ومهرجاناتهم واحتفالات المولد النبوي الشريف والمدارس الأهلية والصحف حيث كان للمرحوم حسين شريف دور رائد في هذا، وفي المناداة  بتقرير المصير ولاستقلال في صحيفة الحضارة وتتابع الرواد وأنشأوا  أندية الخريجين في أم درمان ومدني والأبيض وغيرها من المدن وتأثر كثير منهم بالمؤتمر الهندي وغيرها من حركات التمرد، وانتعشت هذه الحركات وانتشرت قبيل الحرب العالمية الثانية وأثناءها وبعدها حيث بدأ الناس التجمع في تكوينات تنويرية وسياسية واضحة، وكان معظم المثقفين حينها يميلون إلى الدعوة للاستقلال، وكان يرعاهم الإمام عبد الرحمن المهدي وأهدى لهم الشريف يوسف الهندي داراً  في أم درمان مازالت قائمة إلى الآن،  والشريف يوسف من المجاهدين في المهدية، وكان الأمام عبد الرحمن المهدي والسيد على الميرغني وغيرهما من الزعماء الداعمين لأنشطة الخريجين، ومن كان لهم دور بارز في هذا المجال السيد عبد الله الفاضل المهدي والسيد إسماعيل الأزهري والفضلي وإبراهيم أحمد والشنقيطي أبو حسبو والشيخ الريح العيدروس وجماعة من أهلنا بالكلالكة القبة  عشيرة الشيخ النذير  خالد قاضي قضاة المهدية، وكانوا يساندون الأشقاء ـ والأستاذ أحمد خير المحامي لعله من السابقين في إنشاء مؤتمر الخريجين إن لم  يكن أسبقهم ـ وفي مذكرة 1942 الشهيرة التي رفعها المؤتمر للحكومة ومن ضمن مطالبها تقرير المصير، وكان رئيس المؤتمر حينها السيد إبراهيم أحمد المدعوم من قيادة الأنصار وأنصار الجبهة الاستقلالية، وقد بدأت بعد ذلك جهود تكوين الأحزاب السياسية حول الشعارات الأساسية وهي السودان للسودانيين ورفعته الجبهة الاستقلالية من حزب الأمة من الأنصار ومن معهم ونشأ عنها فيما بعد حزب الأمة.  وكان الإمام عبد الرحمن قبلها صاحب شعار لا شيع ولا طوائف ولا أحزاب ديننا الإسلام ووطننا السودان، وتحت رعاية السيد علي الميرغني نشأ جناح الحركة الوطنية الذي كان ينادي بالاتحاد تحت التاج المصري وكان قبلاً من دعاة  الاستقلال، وأيد في بداية الخمسينات من القرن العشرين الاستقلال مرة أخرى. كان الاتحاديون متمسكين بذلك حتى قيام انتخابات الحكم الذاتي في العام 1954  حين حصل الحزب الوطني الاتحادي بقيادة الرئيس أزهري ودعم السيد علي الميرغني وباحتشاد ضخم من الدعاية والأموال المصرية من الحصول على الأغلبية في البرلمان وتكوين أول وآخر حكومة  بواسطة حزب منفرد من داخل البرلمان، وكان هنالك كثير من المتحمسين من الاتحاد مع مصر وخرجوا من الحزب الاتحادي بعد إعلان الاستقلال ومن هؤلاء أذكر الأخ الكريم الدكتور الطاهر محمد عوض الله وكان يسكن مع خاله جدنا الشيخ محمد المرضي سكرتير الحزب الوطني الاتحادي «الذي كان يشكل مع الرئيس إسماعيل الأزهري ثنائياً سياسياً خطيراً» وعندما وافق السيد علي والأزهري والمرضي وزملاؤهم على الاستقلال وليس الوحدة أخذ شنطته وغادر إلى منزله.

وقد اتضح  إلى الأحزاب جميعاً وللمصريين والانجليزي أن الشعور الاستقلالي هو الغالب وحتى بعد ظهور نتيجة الانتخابات،  بالرغم ما شابه وحصول الاتحاديين على الأغلبية البرلمانية إلا أن الجبهة الاستقلالية لا يمكن تجاوزها، وربما الذي اقنع الجميع هو حشد أول مارس 1954 الذي دعا له حزب الأمة الأنصار لإسماع صوت الاستقلاليين لمحمد نجيب الذي تمت دعوته لحضور افتتاح البرلمان وإعلان الاتحاد من داخله. وتجمع الأنصار في شارع  المطار لإسماع الصوت الآخر لنجيب  ولكن الذين نظموا الزيارة شعروا بأن حضور نجيب بالطريقة المرسوم سلفاً والذي احتشد فيها أنصار الاستقلال احتشاداً سلميا لإعادة التوازن للساحة السياسية  غير الطريق المرسوم فاضطرت الجماهير للذهاب إلى القصر لإسماع الصوت الاستقلالي «لا مصري لا بريطاني» ووقعت الأحداث المؤسفة نتيجة للاستفزاز الذي تعرض له الاستقلاليون و سالت دماء طاهرة زكية برئة حسابها عند ربها يوم يقوم الاشهاد.. وكان الإنجليز يتربصون الدوائر لإعلان الانهيار الدستوري وعودة الساعة إلى الوراء، ولكن فات الأوان    TOO Late  فقد أسمعت الجماهير صوتها واستجاب القادة وإعادة الأمر فى نصابه والسيف إلى قرابه، واقتنع حتى غلاة من نادى بالاتحاد تحت التاج المصري ان هذا الامر قد ولى زمانه و ادبر، وفي حادثة أخرى بعد حكومة أكتوبر الأولى حيث كان يمثل فيها اليساريون حوالي تسعة وزارات وحزب الأمة بوزير واحد، فاحتشد الأنصار وتم حل الحكومة وأعيد تكوينها وتمت إعادة التوازن الوضع السياسى و  عند اجراء الانتخابات ظهرت الاوزان و كذلك تم بعد ثورة رجب /ابريل 1986 .وليس للأنصار أو الجبهة الاستقلالية عداء مع مصر أو غيرها بل الحرص كل الحرص على حسن الجوار والتعاون والتعاضد ومصر القوية المستقلة عن النفوذ الاستعماري سند للسودان وكذلك السودان سند لمصر، وأنا أشهد بأنه في حكومة السيد الصادق الأخيرة أن دعيت لقضاء إقامه الأستاذ عبد الله محمد احمد في منزله وكان وزيراً للتجارة الخارجية او الثقافة و الاعلام أن لم تخني الذاكرة للملحق التجاري المصري وعرض عليه أن تزرع مصر مليوناً من الأفدنة قمحاً حتى تتحرر من قبضة الدقيق والقمح الأمريكي، فاعتذر الملحق بدبلوماسية، ونحن ندعو لاتحاد بين السودان ومصر وليبيا وربما ِإثيوبيا وأريتريا وتشاد.

بعد استعراض بعد التطورات السياسية و النضالية فى الطريق الى الاستقلال ان نكمل هذا الامر بايراد بعد الوثائق الهامة لتلك الفترة من عمر الوطن و لعله غنى عن القول ان من اهم تلك الوثائق وثيقة التفاهم التى تمت بين مصر و بريطانيا فيما عرف باتفاقية الحكم الثنائى و التى تم توقيعها فى القاهرة فى 19 يناير 1899 و وقع عن حكومة مصر رئيس النظار-رئيس الوزراء حينها- بطرس غالى و عن الجكومة البريطانية اللورد كرومر المندوب السامى البريطانى بمصر. و هى تقريبا اول اتفاقية من نوعها للحكم الثنائى. و تتكون من اثنى عشرة مادة و من اهم هذه المواد المادة الثالثة التى تفوض الرئاسة العليا العسكرية و المدنية فى السودان الى موظف واجد يلقب ( حاكم عموم السودان ) و يكون تعيينه بأمر عال خديوي بناء على طلب جكومة جلالة الملكة ولا يفصل من وظيفته الا بامر عال خديوى يصدر برضاء الكومة البريطانيةزو قام حاكم عموم السووودان بتعيين حكومة من ثلااثة سكرتيرين قضائى و ادارى و مالى و مفتش عام( سلاطين باشا النمساوى الجنسية و الذى تم اعفائه حين اندلاع الحرب العالمية الاولى و كانت دولته فى المعسكر المضاد لبريطانيا العظمى حينها) و كدلك تم تعيين مدراء المديريات و مفتشو المراكز و جميعهم من الانجليز كما تم تعيين بعض المامير من المصريين و فى فترات متأخرة تعيين بعد نواب المامير من السودانيين و بعض نواب مدراء المديريات قبيل  مرحلة السودنة فى مطلع خمسينات القرن العشرين

و لعل الاتفاية الاخرى ذات الاهمية القصوى فى الطريق الى الاستقلال هى اتفاقية الحكم الذاتى التى حلت محل اتفاقية 1936 المعروفة باتفاقية صدقى- بيفن.اتفاقية الحكم الذاتى للسودان تم توقيعها بالقاهرة فى اليوم الثانى عشر من شهر فبراير 1953 و التى مهدت لقيام انتخابات 1954 .و قد وقع عن جكومة مصر اللواء ا.ح. محمد نجيب و عن حكومة المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى و شمال ايرلندا رالف اسكراين ستيفنسون. و تتكون الاتفاقية من خمسة عشرة مادة من اهمها المادة العاشرة الخاصة بقيام البرلمان و بقانون الجمعية التاسيسة  و المادة الثانية عشر و الخاصة بالمهام المنوط القيام بها بواسطة الجمعية التأسيسية ان تقرر مصير السودان كوحدة لا تتجزأ و ان تضع دستورا يتوائم مع ذلك القرار  كم تضع قانونا لانتخاب برلمان سودانى دائم و ان يكون تقرير المصير ام باختيار الارتباط بمصر على اى صورة او الاستقلال التام و اختار السودان الاستقلال التام الذى يظهر فى الوثائق ادناه :

تقدم العضو عبدالرحمن محمد إبراهيم دبكة من حزب الأمة بالاقتراح الآتي: (نحن أعضاء مجلس النواب في البرلمان مجتمعاً نعلن باسم الشعب السوداني، أن السودان قد أصبح دولة مستقلة كاملة السيادة، ونرجو من معاليكم أن تطلبوا من دولتي الحكم الثنائي الاعتراف بهذا الإعلان فوراً)

و قد ثنى الاقتراح من جانب الحزب الوطنى الاتحادى نائب دائرة دار حامد جمعة سهل.

ولأهمية كتابي الاعتراف أورد نصهما فيما يلي:

كتاب الاعتراف الصادر من الحكومة  المصرية:

السيد رئيس مجلس الوزراء حكومة السودان

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

أن الحكومة المصرية عملاً بنواياها جاهرت بها وبمسعاها الذي جاهدت من أجله لتحقيق الحرية لشعب السودان دولة مستقلة ذات سيادة.

وقد أصدرت الحكومة المصرية تحقيقاً لهذا الإعلان المرفق كما اعتمدت نيابة السيد الأميرلاي أركان حرب  عبدالفتاح حسن عنها لتقديم هذا الإعلان.

ولي عظمي الشرف بالإصالة عن نفسي وبالنيابة عن الحكومة المصرية في أن أزجي إلى سيادتكم خالص التهنئة بهذا اليوم الخالد في تاريخ   السودان وأن نبتهل إلى الله أن يسدد خطاه في حاضره مستقبله.

القاهرة في أول يناير 1956

جمال عبدالناصر

رئيس وزراء حكومة جمهورية مصر

إعلان

استجابة للقرار الذي اتخذه البرلمان السوداني في 19 ديسمبر 1956م والذي أعلن أن السودان سيصبح دولة مستقلة كاملة السيادة وطلب فيه من دولتي الحكم الثنائي أن تعترفا.

فإن حكومة مصر تعترف بأن السودان دولة مستقلة ذات سيادة بهذا الإعلان اعتباراً من أول يناير سنة 1956م وتأمل حكومة جمهورية مصر في الوقت الذي تعترف فيه باستقلال السودان أن تستمر حكومة السودان في رعاية الاتفاقيات التي  عقدتها الإدارة الثنائية نيابة عن السودان، أو اتفقتا على تطبيقها في السودان.

وسيكون من دواعي سرورها، وترجو حكومة جمهورية مصر تأييد الحكومة السودانية كذلك أن تتعاون معها حكومة السودان في كل الخطوات الضرورية لتصفية الإدارة الثنائية في السودان.

القاهرة في أول يناير 1956م

جمال عبد الناصر

رئيس وزراء  حكومة جمهورية مصر

السيد/ إسماعيل الأزهري

رئيس وزراء السودان

تسلمت حكومة المملكة المتحدة البريطانية العظمة وشمال أيرلندا قرار البرلمان السوداني الذي يعلن فيه أن السودان قد أصبح دولة مستقلة ذات سيادة والذي يطلب فيه السودان من دولتي الحكم الثنائي الاعتراف بذلك الإعلان.

إجابة لهذا الطلب فقد خولتني حكومة المملكة المتحدة بأن أحيطكم علماً بأنها تعترف منذ تاريخ اليوم بأن السودان قد أصبح دولة حرة مستقلة ذات سيادة.

وبينما تتقدم بهذا الاعتراف تثق حكومة المملكة المتحدة بأن حكومة السودان ستظل تنفذ الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمت بالنيابة عنه أو التي طبقت على السودان بواسطة دولتي الحكم الثنائي ويسرنا أن تؤكدوا بأن هذه هي نية حكومة السودان.

وتأمل حكومة المملكة المتحدة أن تتعاون معها حكومة السودان فى جميع الخطوات المؤدية إلى تصفية الحكم الثنائي

ولي عظيم الشرف أن أكون مع خالص التقدير والاحترام خادم سيادتكم المطيع.

أول يناير 1956- سلوين لويد – وزير خارجية بريطانيا

و اعلنت حكومة السودان تعيين ابراهيم جبريل سفيرا للسودان بمصر و تعيين مصر محمود سيف اليزل خليفة سفيرا لها بالسودان كما عينت حكومة السودان محمد عثمان يس سفيرا لدى حكومة جلالة الملكة اليزابيث الثانية ملكة المملكة المتحدة.

و قد اضاع السياسيون السودانيون فى غمرة الصراع الحزبى و الضغوط من دول و احزاب محور الاتحاد السوفيتى و توابعه فرصة ذهبية على السودان برفضه تلبية الدعوة الكريمة للانضمام للكومونولث البريطانى و ما يستتبع ذلك.هل لو كنا اعضاء فى الكمونولث  هل كان الجنوب سيختار  الانفصال؟؟؟

ثم ماذا بعد هل تم الحفاظ عمليا على شعار السودان للسودانيين ام تم اختراقه و اين نحن من شعار الامام عبدالرحمن المهدى لا شيع و لا طوائف و لا احزاب ديننا الاسلام و وطننا السودان و احسب انه لا يقصد الا السودان الكامل و الدين الكامل التام الذى كمل باليوم اكملت لكم دينكم و اتممت عليكم نعمتى و رضيت لكم الاسلام دينا فاين نحن من هذا؟؟؟

تساؤل!!!

لقد شكل السيد إسماعيل الازهرى أول حكومة من حزب واحد بعد أن نال حزبه الأغلبية البرلمانية و قدم السيد حماد توفيق نائب دائرة الحصاحيصا الشرقية  وزير المالية حينها اول موازنة للسودان المستقل و كانت تعتمد إلى حد كبير على إيرادات مشروع الجزيرة و كان بها فائض أربعة عشرة مليون جنيه سودانى و كان الجنيه يساوى ثلاثة دولارات امريكية و أربعين سنتا لي أن الفائض كان يساوى حوالى خمسين مليون دولار.فلين نحن الان و قد أصبح الدولار الامريكى يساوى خمسمائة و ثمانين جنبها سودانيا بعد سبعة و ستين عاما من الاستقلال….للنظر و التفكر فقط .

القضية الاخرى الهامة هل تمت كتابة تاريخ السودانيين فى السودان أم تاريخ الاستعمار فى السودان.معظم الكتب التى تم تاليفها قديما تناولت تاريخ الاستعمار و المستعمرين فى السودان و لم تكتب عن السودانيين فى السودان الا قليلا  او عند تماسهم مع المستعمر.و قد كتب ود  ضيف الله فى كتابه المشهور ” الطبقات ” و الذى قام بتحقيقه العالم الجهبذ البروفيسور يوسف فضل حسن الجعلى المدير الاسبق لجامعة الخرطوم و الذى له عدة مؤلفات عن تاريخ السودان و لا زال يواصل مجهوداته القيمة حتى تاريخ اليوم الثامن من شهر ديسمبر 2014..امد الله فى ايامه و اصلحه و نفع به.و كذلك كاتب الشونة الزبير ود ضوة و الذى ارخ لسلاطين الفونج و لجزء من احداث التركية. و الف كذلك الاستاذ الدكتور سعدالدين محمد احمد الفتايابى حفيد الشيخ جادالله ابو شرا من الكلاكلة القبة سفرا عظيما من ثلاثة اجزاء اسماه” حصاد القرون فى تاريخ الكلاكلة و الفتاياب و اصهارهم القدماء” شمل فيه غير نسب الفتاياب و الكلاكلة و اعلامهم من الشيخ على فتاي العلماء و الشيخ جادالله ابو شرا و الشيخ النذير خالد القاضى بالمهدية و شيخ العلماء بالمعهد العلمى و الناظر شكر الله  مدنى  جاد الله ابو شرا و عكاشة مضوى و الشيخ ابراهيم و عبدالقادر ود ام مريوم  و الدكتور بدرالدين طه الفكى احمد و غيرهم من الاعلام.و كتب حسي خليفة باشا كتابا عن العبابدة و اخرين عن الجعليين و الفور و الزغاوة و الشكرية و الحلاوين و حركة الخريجين و المهدية و الختمية و  السمانية و القادرية    و من اعظم ما كتب كذلكعلى سبيل المثال لا الحصر مؤلفات الاستاذ ضرار صالح ضرار و عون الشريف قاسم و مكى شبيكى و التراث الضخم الذى لا يقدر بثمن الذى حققه الاستاذ محمد ابراهيم ابو سليم و المؤلفات التى صدرت عن معهد الدراسات الاسيوية الافريقية و علماؤه و غيرهم مما نرجو ان نفرد له مقالا مطولا ان شاء الله.

و يبقى السؤال ماهو تاريخ استقلال السودان الحقيقى و الحاسم و المعلن و الرسمى؟

فتاريخ الاستقلال الحقيقى للسودان هو عند حسم معركة فتح الخرطوم و استعادة البلاد لاستقلالها و سيادتها يوم السادس و العشرين من شهر يناير 1885 بعد مقتل الجنرال غردون ممثل الاستعمار التركى المصرى و الذى تم ارساله لتنفيذ سياسة اخلاء الحاميات الباقية فى السودان .و قد كان رئيس الوزراء البريطانى حينها اللورد  قلادستون يرفض ارسال اية حاميات بريطانية لتعزيز الوجود الاستعمارى فى السودان و يصر على ان مهمة الجنرال غردون الوحيدة و الشرعية هي اكمال عملية الاخلاء و الانسحاب من السودان.و قد تحدث مرارا فى مجلس العموم البريطانى ان ما يحدث فى السودان من ثورة هو امر مشروع لشعب يريد حريته يجب على بريطانيا عدم الوقوف ضده باي حال من الاحوال. و لكن كانت هنالك مجموعة من غلاة الاستعماريين ترى عكس ذلك هي التى اصرت على ارسال حملة ولسلى و غيره ليس للاخلاء انما لتعزيز الوجود الاستعمارى .و كانت النتيجة هي خيبة الحملة و مقتل غردون على عتبات القصر و هو شاهر مسدسه او قتله و هو يحاول النجاة و اللحاق بباخرة حملة الاخلاء و دخول المهدى عليه السلام الخرطوم و تدشين استقلال السودان. بعد تضحيات جسام و شهداء عظام. و اليوم الحاسم لاستقلال السودان الحديث هو اليوم الاول من شهر  مارس   1954 .عند ما سمع اللواء محمد نجيب الصوت الاستقلالى داويا ….لا مصرى لا بريطانى ..السودان للسودانيين. و اليوم الثالث للاستقلال هو اليوم المعلن فى التاسع عشر من شهر ديسمبر 1955 و اليوم الرسمى هو يوم الاول من يناير 1956.

و عاش السودان حرا مستقلا.

حاشية:

اخذت عددا من هذه النصوص من كتاب السير هارولد ماكمايكل..السودان.. و الذى قام بترجمته الاستاذ الفاضل-مجمود صالج عثمان صالح فى طبعته الثانية  بنشر مركز عبدالكريم ميرغنى2009 و من الكتب القيمة –العلاقات السودانية المصرية للفاضل المؤرخ الاستاذ الدكتور الفاتح الشيخ يوسف بجامعة الجزيرة 2008

د.عثمان البدرى

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى